منذ أن قام أول طفل مشاغب في درعا بكتابة عبارات السخط على جدار مدرسته ظن أصحاب القلم أن تاريخاً جديداً فتح في بلاد اللون الواحد والتصفيق الأبله، وأن بإمكانهم اليوم أن يكتبوا عن الأمل والتغيير والمستقبل. الخوف الممتد لعقود أفلت منه هواة الكلام والحالمون فقط بصيحة دون رقيب، وأما أصحاب المنابر والامتيازات على قلتها وتفاهتها فتراجعوا خطوات إلى الخلف، منتظرين ما ستسفر عنه حمأة الدم الأولى، وبالتالي صعود المركب أو القفز منه حسبما يرتفع الموج أو يتراجع.
البعض كان له حساباته المادية والانتهازية في أن فرصته قد حانت للصعود، فالدم اميتاز القساة حتى وإن كانوا يمتهنون الكلام، وأن النتائج بالضرورة ستكون باب ارتزاق بغض النظر عن المنتصر، وعما يمكن أن تصير إليه ألأوضاع، وهذا بالضبط ما حصل مع أول دفعة قررت أن تكون طرفاً في معركة التغيير التي كان لها داعموها ومخابراتها ومستثمروها.
في الهامش الكبير على ألأرض كان لا بد من إطلاق المندفعين إلى الخلاص إلى الوجهة ونافذة الصياح، وهؤلاء كانوا الناشطين الثوريين كما اصطلح تسميتهم، وهم في أغلبهم مؤمنون بما يحصل من أمواج البشر الذاهبين إلى الموت والهتاف، وأما انتهازيو المعركة فتم تنصيبهم لاحتواء كل هذا الزخم على قنوات البث وصفحات التغيير ومنظمات الدعم، حيث يقف الدافعون والمتنافسون على غلة البلد المدفوعة إلى المجهول قبل إعلان التيه الذي نحن فيه.
بعد عشر سنوات من معارك السلاح والكلام يقف الجميع اليوم بين يائس وحانق ومتمرس خلف راتبه الشهري الذي يعتاش به في دول اللجوء والاختواء، وفي لحظات البوح القليلة ربما يعترف بأن الحسابات كانت خاطئة، وآخرون مغبونون بما آلوا إليه ربما يأخذهم هذا الشعور إلى الانزواء أو الاكتئاب، وأما دفعة الانتهازيين الأولى فما زالت تعيش صراعات اقتسام ما بقي من تحويلات الدعم الأخيرة فيما تسمى مؤسسات وجمعيات ومنظمات ومِنح.
حروب كلامية وتخوينية تصعد وتخبو بحكم الإبقاء على ستر الخطيئة أو انتظار آخر الآمال في إحداث تغيير مفاجئ، طالما تم التعويل عليه فقط لأن القلم في يد الجاهل يقتل، وقد يحلم البعض بأوامر جديدة تعيد دورة المال والصراع إلى ما كانت عليه، وأما في الأعماق فثمة خوف شديد من مصير التغييب، وقد أثبت طول المعركة السورية أن الوجوه تتغير وتموت وتنأى.
في ذروة التيه السوري اليوم ثمة بعض الأصوات الخافتة التي تدعو لإعادة الثقة بين المتحاربين على هامش الصحافة والثقافة والسياسة التي أنتجتها مآلات الصراع السوري، والاتفاق على تغيير الخطاب وعقلنته، والبحث عما يجمع ولا يفرق، وأن حبرنا وإن كان باهتاً يبقى أفضل من الكتابة بحبر الآخرين اللامع والناصع لأنه لا يكتب ما نريد بل ما يريده المنتج والمخرج، وأما الجمهور فقد ملّ ترداد نفس الشعارات كما لو أنه لم يطلق صيحة واحدة..فماذا فعلت بنا..يا أيها الولد الذي خط أولى كلمات الرفض ومات.
عن الكتابة بحبر الآخرين.. عبد الرزاق دياب*
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية