وصلت دول المنطقة إلى القاع، إذ لا انحدار بعد الكفر بالوطن والاستسلام من دون تفاوض ومقابل. كما لا سقوط سيلي الشعور بالهزيمة واللاجدوى من أي وكل شيء.
هذا الحال، هو آخر المطاف بخطط تم الاشتغال عليها طويلاً، فأن يرى اللبنانيون بعودة الاحتلال الفرنسي أملاً للهروب من خرّف رئيسهم وارتهانهم لميلشيا تبطش باسم الله، وأن يهرول حكام الخليج لحضن إسرائيل، وهم الأبعد جغرافيا وسياسياً عن أذاها والأقل انتفاعاً من شراكتها، وأن يرحب السوريون بمحتلي الأمر الواقع علهم يخرجون من أفخاخ تجويع وإذلال عصابة الأسد.
فليس بعد ذاك من مفاجآت، يمكن أن تهز كيان الحالمين، والأرجح، أن كل الخيانات بعد اليوم، هي وجهات نظر، سيكون لها من يبررها وربما يلوم على تأخير اتخاذ قرارها، كما ليس مستبعداً أن تحتل تماثيل الفاتح أنور السادات، ساحات العواصم والمدن الكبرى، ويدّبج له الشعراء وخطباء الهزيمة، قصائد مديح لأنه قارئ المستقبل وسابق عصره وزمانه.
القهر الأول، ليس من مفاجأة لعاقل، بكل ما اقترفه الحكام، أو بتحول اقترافاتهم من خلف الأبواب إلى منصات الاحتفالات، فهاتيك أدوارهم الوظيفية التي كانت لقاء وجودهم على كراسي الوراثة، فزراعة بريطانيا العظمى، لحكام الشام والأردن والخليج، لم تكن لجني ثمارعام...بل لرعرعة الضعف والهزيمة وتجذير الخيانات، للحؤولة دون الدولة والمواطنة والحريات، مادامت الشعوب فئران بيضاء، تمارس عليها تجارب التغني بالتاريخ وأمراض الطائفية وعبادة قادة الوهم والكراهية.
الأول، صمت الشارع عن خيانات الحكام ولجوئهم إلى إسرائيل مخافة صحوة شعوبهم وخسارة الكراسي، وليس لأي شيء آخر مما يروّجون، إن بالخروج من زمن المقاومة الذي لم ينعكس إلا فقراً وجهلا واستهدافاً، أو حتى التصدي للفزاعة الفارسية.
إذ وبهذا الملمح دليل على انطلاء الأضاليل على الشعوب، أو ربما يأسهم إن لم نقل موتهم وقبولهم بدور الجثث التي تقبر أنّى يشاء لها أن تكون سياجاً لمنع تدفق الوعي والنضال.
وأما الملمح الثاني، فتبدّى بتعرّي حوامل النضال والثقافة، هؤلاء-أشخاص وتنظيمات ومراكز وأحزاب-الذين لم يختلفوا، بعد اختبارات الواقع، عن الحكام بأدوارهم ومبررات وجودهم، إذ أغلب الظن قد ساهموا، بالإجهاز على الشعوب، اللهم إن لم يخلقوا ردّة ويكرسوا مفاهيم جديدة للاستغلال والخيانة وحلال على الشاطر، خاصة بعد المقارنة بين بحبوحة حملة ألوية النضال، وما آل إليه وضع الشعوب، من جوع وإذلال وتخلٍ، حتى عمّا يباع لمرة واحدة.
وأما القهر الآخر الذي تجلّى بعد انسحاب رعاة الديمقراطية ودعاة حريات وأحلام الشعوب، من نصرة المظلومين ومقاضاة المجرمين، فكان ربما، أكثر خطراً وأطول أثراً وتدميرا.
لأنه ببساطة، أزاح هواجس السعي للهوية وبدد مفهوم الوطن وسخّف من مفاهيم النضال والصمود وحقوق الشعوب.
فأن يكون بالهجرة والانتماء للأوطان الجديدة، الحل العبقري الذي اختاره قارئو المستقبل للهروب من جحيم الأوطان، بعد أن بات الارتباط والعمالة، مفردتي السياسة الإلزامية، لمن ادعى القيادة وتمثيل أحلام المتطلعين لوطن وثورة وديمقراطية. ففي ذلك فتح على فتح السادات، إذ لا مبرر بعد هاتيك الخيبات، يستدعي حتى البقاء على أمل البقاء.
نهاية القول: السؤال الذي يتوثب على شفاه "الأحياء" وإن يتثاقل ومرارة. أهذا كل شيء، أم ثمة ما هو بين القهرين؟!
الطبيعي والمنطقي وأحداث التاريخ، كلها تؤكد أن هناك ما بين القهرين، وإلا، فقد أفلح صنّاع القهر بإماتة الجميع وحولوا المنطقة بمن وما فيها إلى مقابر ومخابر، وسوّقوا بمساهمتنا، نحن الموتى، التجسيد الأقبح لمواليد القهر والقبح على مر التاريخ، وهو الأنظمة الشمولية العميلة.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية