قضى معظم حياته متنقلاً بين سوريا والرياض في المملكة العربية السعودية، لم يكن يرسم لنفسه مصيراً مرتبطاً بالفن، ولم ينظر لنفسه يوماً كرسامٍ حروفي.
كانت موهبة مرافقة له منذ الطفولة عندما، غذاها له أستاذ التربية الفنية وهو لما يتجاوز العاشرة من العمر، في إحدى مدارس الرياض حيث كان ارتحاله الأول مع عائلته، مع هذا المدرّس، استكشفت أصابعه مرونتها، واستشعرت روح الحرف لتلويه، وتلونه وتستمر معه، فتصبح هاجساً وحُلماً لن ينتهي.
هو الفنان "ياسر الغربي"، فنان تشكيلي حروفي، جاء من عالم القانون، إلى عالم الفن، فأبدع.
ولد "ياسر" في قرية تابعة لمدينة "مسكنة" في ريف حلب على الخاصرة اليمنى للفرات في عام 1980، وفي عمر أربع سنوات لينتقل من بيت الجد الى بيت الأب، فكانت محطة تغيير سيصعب عليه نسيانها.
في عام 1986 كان ترحاله الثاني حين انتقلت الأسرة الصغيرة للعيش مع رب الأسرة في السعودية، وظل فيها حتى الصف العاشر من المرحلة الثانوية ليكون الارتحال الثالث والعودة إلى سوريا مجدداً.
في عام 1999 كان الارتحال الرابع وكلن هذه المرة ارتحل وحيداً إلى جامعة حلب لدراسة القانون، الاختصاص الذي لا يحبه بتاتاً، لكنه قبل باختيار والده ودرسه لأجله.
العيش وحيدا في حلب فتح أما الشاب الطموح آفاق واسعة، إذ أعطاه زمام المبادرة والاعتماد على الذات، وفتح أمامه باب المعرفة والعلاقات واسعاً، مع أسماء مهمة وشخصيات مميزة.
يعتبر "ياسر الغربي" أيامه الجامعية من أهم مراحل حياته، فيعبر عنها قائلا:
"عشت حياة مكتملة التفاصيل، اشتغلت على نفسي رغم أنني لا أحب دراسة الحقوق لكن اعتبرت أن هذا قدري، وقررت ألا أخسر موهبتي وتابعت بتنمية الموهبة بشكل فردي من خلال التدريب والقراءة والاطلاع على التجارب الأخرى وتمكنت إلى حد ما من توسيع مداركي ومعرفتي بشكل مقبول آنذاك".
*الخروج للضوء
أثناء فترة دراسته استثمر ياسر حضوره الدائم لجميع المحاضرات بتفريغها، وصياغتها، وكتابتها بفضل خطه المتميز، ما أعطاه دخلاً مادياً ممتازاً بالنسبة لطالب، ما ساعده في أن يتحمل أعباء حياته وهوايته بشكل مستقل، ويخفف عن ذويه حمل مصروفاته الجامعية.
في عام 2004 وفي الذكرى السادسة لرحيل "نزار قباني" الشاعر الذي يحبه "ياسر" حد التمثُل، أشار عليه بعض الأصدقاء ان يستثمر قصاصاته الورقية ولوحات الموجودة في منزله ليكون هذا معرضه الأول.
أقيم المعرض في كلية الحقوق -جامعة حلب- في يوم30/4/2004، واحتوى على لوحات صغيرة لمقتطفاتٍ شعرية لـ"نزار قباني"، وبعض مما كتب "محمد الماغوط" و"مظفر النواب" و"محمود درويش"، هؤلاء كانوا الرباعي الملهم له، فقد استهوته ثورية نصوصهم، وحداثتها، وتميزها التي لا يختلف عليه اثنان.
عرض "الغربي" في هذا المعرض حوالي المائة لوحة، رُسمت بأدوات بسيطة من أقلام البيك، وألوان مائية بسيطة.
خلال هذا المعرض تلقى "ياسر" الهدية الأثمن في حياته كما يعتبرها، إذ أهداه أحد الفنانين التشكيليين الذين زار معرضه وأعجب به، أهداه دعوة لحضور معرضاً للفنان "سامي برهان" والذي يعتبر شيخ الحروفيين السوريين والذي كان يقيم بالصدفة معرضاً فنياً له في حلب في ذاك الوقت.
*نقطة تحول
التقى "ياسر" بالفنان المتميز "سامي برهان"، وهو يحمل بداخله الكثير من الرهبة، والخوف، لكن تواضع "برهان" ومحبته للمواهب، جعلته يشعر وكأنه يحادث صديقاً قديماً، إذ قدم له "برهان" نصائح وإرشادات استطاع "ياسر" أن يدخل هذه التقنيات في أعماله وإن كان بعد عشر سنوات من ذلك اللقاء.
كان هذا المعرض – معرضه الأول – نقطة تحول مهمة في حياة الغربي يقول عن هذه الفترة: "أكسبني المعرض احتراماً لنفسي أولاً واحتراماً من قبل الأصدقاء والأساتذة ومحبة من المحيطين قدرتها عاليا، في فترة المعرض عشت حالة جميلة للغاية شعرت بأنني أعيش في عالم يشبهني وأحبه، ثم عدت لأرض الواقع لأكمل عناء السنة الأخيرة من كلية الحقوق".
وكان صدى المعرض أكثر بكثير مما توقع، ففتح له آفاقاً جديدة، ولأنه كان عام التخرج، ما جعل ياسر أمام ضغط من نوع خاص شببه بمن أمسك بطائر فلا هو يستطيع العناية به ولا هو بقادر على إطلاقه والتخلي عنه.
لكنه قرر أن يعتني بالاثنين معاً أي التخرج والموهبة معاُ، ففي ذلك العام كان صاحب المكتبة يدين لياسر بثمن المحاضرات لكنه لم يأخذهم كنقود بل أخذ بما يعادلهم أدوات فنية ستخدم موهبته وتكفيها لفترة.
"2005 تخرجت من كلية الحقوق وبعدها إجراءات الانتساب للنقابة وبعدها اعتقلت لسبعة أشهر وهذا كان الفارق".
فترة عصيبة مرت في حياته استمرت قرابة العامين، فبعد خروجه من الاعتقال كان محروما من المشاركة بأي مسابقة توظيف بالدولة ومحروما من عضوية النقابة، يقول الغربي عن هذه المرحلة:"أصابني بعض العفن الذي أصاب السوريين آنذاك عشت حالة من الوحدة التامة، محاولا بشتى الوسائل الحصول على حقي بالعمل والانتساب للنقابة وما إلى ذلك لكنني لم أستطع، وبعد عامين من النضال الفردي على قضيتي قررت المغادرة وكان لزاما علي أن أنهي الخدمة العسكرية لمدة سنة ونصف قبل أن أستطيع المغادرة خارج البلاد".
ويكمل "يا سر الغربي" قصة الطريق إلى ارتحاله الخامس:"في شهر 4/2010 أنهيت الخدمة العسكرية، وحصلت على حريتي واستطعت في نهاية العام نفسه الرحيل إلى الرياض كونها الخيار الأقرب إلى نفسي آنذاك نظراً لأني عشت فترة من عمري فيها وكونه الخيار الأسرع للخروج من البلاد.
لم يكن هناك مجال للعمل بشهادة الحقوق فعملت في شركة اتصالات، لكن في نهاية 2012 لم أعد أستطيع أن أعيش هذه الحياة التي لا تشبهني كموظف في شركة فقررت العودة إلى بيتي الروحي الأول وهو موهبتي، لم أكن على دراية كافية بنوعية الأقمشة المناسبة أو نوعية لألوان المناسبة ومعظم تقنيات العمل لم أكن متقنا لها خاصة في مدينة مثل الرياض كانت تحبو باتجاه الفن حبواً، في هذه الأثناء حملني القدر وبمحض الصدفة إلى شركة إعلانات التقيت فيها برجل عرفني على أحد مالكي صالات العرض الفنية، عرضت عليه أعمالي الموجدة لدي آنذاك فاقتناها جميعها ولاقت لوحاتي رواجاً وكانت هذه الشرارة التي حرضتي لأن أقرر الاحتراف وانتهي كفنان تشكيلي حروفي".
في الرياض استطاع "ياسر الغربي" أن يثبت نفسه وموهبته متخذاً فنه حرفة وعملا هذه المرة، فاستضافته عدة قنوات محلية سعودية ثم تجاوزها إلى قنوات خليجية مثل تلفزيون "أبو ظبي" في برنامج "ألواني" الذي كان برنامجا احترافيا بامتياز وتلفزيون "mbc" في برنامج "صباح الخير يا عرب"، وقبل ذلك شارك في معارض جماعية في تركيا ونيويورك وهولندا وألمانيا.
بدأ نجمه يستطع في الأوساط الثقافية السعودية حتى أواخر 2016، حيث بدأت تراوده فكرة الخروج من السعودية خاصة بعد التضييق الشديد على المقيمين السوريين بالإجراءات القانونية وتأثر السوريين بشكل خاص بها، ومع استحالة العودة لسوريا فكان القرار باللجوء الى فرنسا كحل جذري، وهنا يقول "الغربي":
"أنا لا احب الحلول المؤقتة أو الحلول الوسط ورأيت الكثير من العائلات السورية المقيمة في السعودية يضطرون مقهورين تحت ظروف معيشية وإدارية وقانونية من العودة الاجبارية لسوريا مرغمين تحت الخطر، فلم أرد أن أضع نفسي وعائلتي (زوجتي وأطفالي) تحت هذا الخطر وهذا القهر من جديد فقررت أن أنهي هذه المرحلة في السعودية التي دامت لسبع سنوات وحملت الكثير، فكانت فرنسا هي خياري الأول لأنه الحلم والشغف الذي كان يراودني دائما ومنذ زمن بأنني يجب أن أعيش في فرنسا ولم أفكر قط بأي بلد آخر. الحصول تأشيرة فرنسية لأسرة سورية كاملة من الرياض كان شبه مستحيل ولكن تمكنت بالخروج بعائلتي بكل هدوء".
سنة وثلاث شهور مضى على وجود "ياسر الغربي" في فرنسا، عادة هي مدة قصيرة جداً وغير كافية ليبدأ أي مهاجر جديد أن يبدأ حياته واندماجه أو يتعلم أبجديات المكان لكن "ياسر" الذي اعتاد أن يتغلب على الصعاب مهما كانت، استطاع خلال هذه الفترة القصيرة أن يبدأ من جديد، ويتلمس طريقه باتجاه استمرار عن هذه المرحلة يخبرنا الغربي:
"الفترة الأولى من اللجوء في فرنسا كانت صعبة للغاية، إجراءات قانونية، وإيجاد سكن، ولا يوجد استقرار ثم بعد الاستقرار بدأت أبحث عن مكان للعمل فبدأت أبحث عن جمعيات لتساعدني بإيجاد مقر أو مرسم للعمل وبحثت أين تباع الألوان أين المراكز الفنية، في رحلة البحث هذه تعرفت على سيدة فرنسية مهتمة بالفن قدمت لي جزءا من منزلها بالبداية فقلت لها صعب أن يكون داخل المنزل فتركت لي الكراج لأعمل فيه، وهكذا بدأت في شهر نيسان ابريل/ 2018 وتابعت مسيرتي الفنية ومازلت أسير ببطء قليلا نتيجة الظروف لكني لن أتوقف وسأصل إلى ما أريد يوما ما وسيكون قريبا".
في الفترة الأخيرة ترك ياسر كراج السيدة الفرنسية شاكراً وقوفها إلى جانبه حيث استطاع اتخاذ مكان خاص فيه ليكون محترفه الدائم.
يرى "ياسر الغربي" أن الفن حرب موجعة ولها الكثير من الضحايا، لكنه يرفض أن يكون ضحية.
ويضيف:"سأستعير تعبير نزار قباني بتصرف فحين يقول أنا مع الحب حتى حين يقتلني فأنا أقول بأنني مع الفن "إلا حين يقتلني".
نحن اليوم مع الفنان السوري "ياسر الغربي" ننتظر منتصف شهر أيار مايو الحالي ليخبرنا عن مشروعه الذي يحضر له حالياً.
ويؤكد "الغربي" لـ"زمان الوصل" أنه لن ينتهي عام 2019 إلا بمعرض شخصي سيقدم من خلاله نفسه وفنه للجمهور الفرنسي كشخص سوري وفنان قطع مسافات طويلة من الجهد والنضال الفردي، ليصل إلى هذا المكان.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية