و رحلَ ( الأبضاي ) الذي دغدغ أحلام طفولتنا كي نكبر و نتشبّه به ، بشاربيهِ العريضين ، و بجسمهُ الرّياضيُّ المثير ، و بعضلاتُهُ المفتولةُ و التي كُتِبَ على إحداها في ساعِدِهِ ( يا باطل ) أو رُسم عليها قلب اخترقهُ سهم الحبّ ، ، و صوتُه الرجوليّ الأجش ، و نظرتُهُ القويةُ الحادّة ، و الكوفيةُ الملقاةُ بعجلٍ و فوضويةٍ على كتفيهِ ، و بالطّاقيةِ المزركشةِ الموضوعة بميل متعمّدٍ على رأسهِ و شعرهِ الطّويل ، و الصّدريةِ البيضاء ذات العلاقتين ، وِ بالإسورتين الجلديتين الممسمرتين اللتين كان يضعهما في معصميهِ ، فضلاً عن ( الشروال ) الذي كان يرتديه دوماً و الخنجر الذي كان لا يفارِقُ حزام خصره .
( الأبضاي ) .. الذي جمع الشقاوة و القوّة و النبل و الطيب و الكرم برجلٍ واحدٍ كُنا ننتظرُ كلماتِه و حركاتِهِ السّاحرة لتضحك بها أرواحُنا من قلبِ قلبِها ، حتّى أضحت كلماتُه قاموساً لكلّ ( القبضايات ) كما ( يا باطل ) و ( عَرَضيّة ) و ( مالا فكاهة و لا مازّيّة ) و ( لكّ ) ، قبل أن يضحي هو نفسُهُ رمزاً يُشبَّهُ بهِ كل ( القبضايات ) الجُدد بأن يُكَنّوا بما كُنّي هو به أي ( أبو عنتر ) .
( الزّكرتي ) الذي طالما كان السجن أحدَ أكثر الأماكن التي يرتادُها في حياتِه الفنية حتّى أدمنها ، و منهِ - أي السجن - نضجت ملامِحُ نجوميتِه و ذلكَ لطبيعةِ الأدوار التي كانتْ تُسندُ إليهِ كرجلٍ قويّ متهوّرٍ تغلُبُ غالباً قوّةُ عضلاتِهِ على عقلِهِ في ردودِ أفعالِه ضمن يومياتِه و معاملاتِهِ و خاصّة عندما يتعرض أو أحد مما يخصّهُ إلى الظّلم ، لطالما سَجَنَنا داخل بيوتنا ساعةَ عرضِ مسلسلاتِه و مسرحياتِه و أفلامِهِ مع رفاقِهِ ( غوار الطوشة ) و ( حسني البورظان ) و ( ياسينو ) و ( فطوم حيص بيص ) في حاراتٍ دمشقيةٍ لطالما أنجبت الرجال و ربّتهم و صدّرتهم للعالم .
أبو عنتر ، اختصر في شخصِه النُبلَ و الطيبة و القوّة و عدم القبولِ بالضَيم و كلّهُ ممزوجٌ ببساطةِ الشعب السوري في النصفِ الثاني من القرن العشرين الفترةُ التي أبدع بها و أضحكَ بها و ألهم بها كلّ من شاهدَ أدوارهُ من المحيطِ العربيِّ إلى خليجهِ الذي كان بحاجةٍ لمن يضحكهم بعد عمرٍ من البُكاءِ في فترةٍ ناسبتَ تماماً زمن هزائمنا الكُبرى في 1948 و 1967 .
ناجي جبر .. أبو العناتر ، خلّد نفسهُ في ذاكرةِ و قلبِّ كلِّ سوريٍّ وعربيٍّ عرِفهُ و شاهدَ و سمع حركاتِه و كلماتِه البسيطة و العفويةِ غير المفتعلةِ و القريبةِ حدّ التطابق و بحرفيةٍ عاليةٍ من الناس العاديين مما قرّبهُ أكثر و زادَ من شعبيتهِ التي ارتقى بها حدّ الريادة و النجومية في كلّ المجالاتِ الفنيةِ التي عمِل بها .
أبو عنتر .. أبكى لمّا رحل ، و أبدعَ في كلّ الشخصياتِ التي لبِسها بدقةٍ و إبداعٍ منقطعي النظير ، و بقي في كلّ أدوارِهِ بذاتِ الهيبة التي حصل عليها من شخصيتِه الأشهر ( أبو عنتر ) ، حتّى في ( سيفو ) و ( نمر ) إحدى آخر شخصياتِه التي عادَ من خلالها للعمل التلفزيوني بعد غياب كان مبدعاً و جذّاباً و آثراً كما اعتدنا عليه .
أبو عنتر .. رحل مع شتاء دمشق ، مع قدوم الرّبيع الحزين هذه السنة ، و بقيتْ دِمشقُ التي بعثتُه ضحكةً كبيرةً تطبّبُ أحزان النّاس ، و هاهي تودّعُهُ مع وعدٍ أنّ لهُ فيها - أي دمشق - مكانٌ لن يأخُذهُ أحدٌ غيرهُ ، و ستظلّ الأجيال التي ما ملّت من تكرار مسلسلاتهِ و أفلامِهِ و مسرحياتِه لعشرات المرّات ، ستظلّ تذكر ناجي جبر .. أبو عنتر .
أبو عنتر .. وطنٌ أصغر ... نائل الشيخ خليل

تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية