سأقوم بالخطوة الأخيرة، نحن ليس لدينا شيئاً نخسره»... فما خسره غسان مبارك حتى الآن لا يمكن للكثيرين أن يتحملوه. هو، منذ ست سنوات، يرى ابنته الصغيرة سوسن تذوي يوماً بعد يوم أمام عينيه من دون أن يتمكن من فعل شيء. ذلك الإحساس بالعجز القاتل أمام مرض نادر يفتك بالجسد الصغير، يجعل الحياة صعبة، لكنه يدفع بالحي إلى البحث دائماً عن بصيص أمل قد يعيد إلى سوسن وأمثالها بعضاً من طفولتهم التي أقعدهم المرض عن عيشها.
فسوسن منذ ولدت في العام 2001 وهي مختلفة. فقدت والدتها في أثناء الولادة، وفقدت الكثير من قدراتها الحركية والعقلية وصحتها الجسدية منذ ذلك الحين. تعاني من مرض نادر لكنه عندما يتمكن من الجسد لا يفرق بين طفل أو بالغ. بل ربما هو يصطاد الأطفال غالباً، منذ البداية، كونه مرضاً وراثياً ناتجاً عن خلل في إحدى الموروثات الموجودة على الكروموزوم 18.
يقول غسان: «بدأ المرض بالظهور على سوسن في سن السنتين، وكلما مر الوقت، ساءت حالتها أكثر». لكن ما هو هذا المرض؟ سؤال بقي غسان طويلاً يبحث عن إجابة له. فالمشكلة الأولى التي واجهت الأب هي صعوبة تشخيص ما تعاني منه ابنته. بدأ يشعر أن أمراً خطيرا يفتك بها منذ كانت في الثالثة من عمرها. بدأت سوسن تترنح في مشيها، وتفقد قدرتها على التحكم بجسدها الصغير، وكلما ضحكت، «كانت تقع إن لم نكن قريبين منها كفاية لإمساكها».
لم تكن العائلة مدركة أنها أمام حالة فقدان للقوى العضلية، غير أنها بدأت بالبحث عن تشخيص لحالة الفتاة الصغيرة. مرت سنة ونصف من التحاليل والاختبارات في لبنان، قبل أن يبدأ أحد الأطباء بالشك في مرض. يقول غسان: «ذهبت بها إلى أميركا وكندا ومراكز أبحاث كثيرة حتى استطعنا تشخيص المرض. وللأسف، هناك أشخاص في لبنان والعالم يصيبهم المرض، لكنهم لا يعرفون ما قصته لأن أطباء كثيرين على مستوى عال لم يسمعوا به».
أصبح لحالة سوسن اسم، لكن معرفة التشخيص لم تزد الحالة إلا سوءا: مرض نيمان ـ بيك (Niemann-Pick disease) من النوع «س». اسم غريب لمرض يقدّر عدد المصابين به المشخّصين في العالم بخمسمئة شخص فقط.
مرض نادر بأعراض قاسية
سمي المرض تيمناً باسم طبيبي أطفال ألمانيين هما ألبرت نيمان، أول من تعرف على النوع «أ» من المرض في العام 1914، ولودفيك بيك الذي تعرف على النوع «ب» منه في العام .1927 وهناك ثلاثة أشكال معروفة من هذا المرض هي: «أ» و«ب» و«س».
وينتج النوعان الأولان عن خلل في عمل أحد الأنزيمات في الخلية والمسمى (acid sphingomyelinase، (ASM، ما يؤدي إلى تراكم نوع من الدهنيات في الخلية يسمى sphingomyelin ويؤدي إلى خلل في وظائف الخلية، وبالتالي الأعضاء المختلفة في الجسم. أما النوع «س» الذي أصاب سوسن فهو يمنع عملية الأيض أو تكسير الكولستيرول داخل الخلية، ما يؤدي إلى تجمعه في الكبد والطحال والدماغ. وهو ينتج عن خلل في الجين (الموروثة) NPC1 المسؤول عن هذه العملية. هذا الأمر يترجم في مجموعة عوارض منها تضخم الكبد والطحال وعوارض عصبية كعدم القدرة على المشي المتوازن وخلل في تنسيق حركة الأطراف وعدم القدرة على الكلام بشكل واضح وصعوبة في البلع ورعشة ونوبات صرع وفقدان السمع والنظر والذاكرة تدريجيا، بالإضافة إلى عوارض أخرى عصبية.
يقول غسان: «في الأشهر الأخيرة، ساءت حالة سوسن بسرعة أكبر من السابق. فهي اليوم عاجزة عن الكلام أو المشي، كما تعاني من صعوبة في البلع، ما يجعلنا نعطيها الأكل عبر الأنبوب. وهي تصاب بنوبات بشكل شبه يومي. ابنتي اليوم طريحة الفراش، والمؤسف انه حتى الآن لا يوجد أي علاج لها... أخاف أن الوقت قد بدأ ينفد منا».
البحث عن علاج في الهند
بالرغم من وجود مراكز عدة في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا تهتم بهذا المرض، إلا أنه لم يتم التوصل حتى الآن إلى علاج ناجع له. ومع ذلك، يظهر بصيص أمل في بعض العلاجات التجريبية.
يقول غسان: «بعدما قطعنا الأمل، ظهر دواء زافيسكا أو ميغلوستات (Zavesca/Miglustat) الذي تبين أنه يؤخر تطور المرض في بعض الحالات، لكنه لا يعالجه من جذوره. هو يحافظ على نظر سوسن قليلاً».
وكانت دراسة قام بها فريق طبي من مستشفى «مايو كلينيك» بقيادة الدكتور مارك باترسن على 29 شخصاً من سن 12 سنة وما فوق، و12 طفلا بعمر أقل من 12 سنة، أعطوا دواء «ميغلوستات»، أظهرت تحسنا في حركة العين وفي القدرة على البلع والسمع وبطأ عملية التدهور الصحي التي يتسبب بها المرض. لكن المشكلة الأساسية تكمن بحسب غسان في أن الدواء غالي الثمن إذ تصل كلفته إلى 10 آلاف دولار في الشهر: «كذلك، لم تتم بعد الموافقة على هذا الدواء كعلاج لمرض نيمان ـ بيك، وإنما حصل على ترخيص كعلاج لمرض آخر (مرض غوشر Gaucher disease)، وبالتالي فإن مؤسسات الضمان وشركات التأمين لا تغطي كلفته لمرضى نيمان ـ بيك». إذ تقدم غسان بطلب إلى السلطات الكندية (كونه وابنته يحملان الجنسية الكندية) لتغطية تكاليف هذا الدواء، غير أن الجواب جاءه سلبياً.
بريق أمل آخر ظهر مؤخراً من الهند حيث بدأت عمليات تجريبية لعلاج مرض «نيمان ـ بيك» باستخدام الخلايا الجذعية المستخرجة من المشيمة. والخلايا الجذعية هي نوع من الخلايا غير المتخصصة التي تكون موجودة إما في بداية تكوّن الأجنة أو في المشيمة وحبل الصرّة (وتسمى خلايا جذعية جنينية). كما تتواجد في النخاع العظمي للبالغين (تسمى خلايا جذعية بالغة). وقد أظهرت الدراسات قدرة هذه الخلايا على التحول إلى أنواع متخصصة من الخلايا، كخلايا القلب أو الدماغ أو العظام أو الرئة، إلخ. وبالتالي، تركز أبحاث كثيرة حول العالم اليوم على إمكانية استخدام هذه الخلايا في علاج الأمراض ذات الطبيعة الوراثية، حيث يمكن لزراعتها في العضو المصاب أن يؤدي إلى تحولها إلى خلايا متخصصة سليمة تأخذ مكان الخلايا المريضة.
وقد بدأ طبيب في الهند هو الدكتور فينكاتارامانا Dr. N.K. Venkataramana في مستشفى «بنغالور غلوبال هوسبيتال»، بإجراء عملية زرع خلايا جذعية لطفل هندي يدعى «أديتيا» (Aaditiya) في الثامنة من عمره يعاني أيضاً من مرض نيمان ـ بيك. فبعدما يئس أهل الولد من وجود علاجات تقليدية لاسيما في الولايات المتحدة، لجأوا إلى هذا العلاج التجريبي. ويشير موقع «أديتيا» على الانترنت إلى حصول تحسّن ملحوظ في حالته، حيث أصبح بإمكانه تحريك عينيه ومتابعة ما يجري من حوله وتحريك يديه للامساك بالألعاب الموجودة بقربه، وهي أمور كان عاجزاً عنها قبل العملية.
لكن الدكتور مارك باترسون، رئيس قسم طب الأعصاب للأطفال والمراهقين في «مايو كلينيك»، يشكك في حديث مع «السفير» بفاعلية العملية. يقول باترسون: «أعرف أن طفلاً في الهند زرعت له خلايا جذعية وإن كنت لا أعرف أي تفاصيل عن طبيعة العملية أو نوع الخلايا. بالنسبة إليّ، لا يوجد سبب لتوقع نجاحها بناء على الدراسات التي أجريت على الحيوانات على مدى سنوات الماضية. أما السيكلوديكسترين فقد أظهرت الدراسات على الفئران نتائج إيجابية له، لكننا لا نعرف ما إذا كان مفيدا للبشر. من الصعب جدا الحكم على مدى فاعلية أي علاج لداء «نيمان ـ بيك» من النوع «س»، لأن هناك قدراً كبيراً من التباين في أعراضه وعلاماته بشكل يومي».
غير أن التقارير الإيجابية الآتية من الهند للعملية ونتائجها شجعت غسان على الاتصال بالطبيب الهندي وطلب إجرائها لابنته. وهو ما تمت الموافقة عليه وتحدد موعد لها في الرابع والعشرين من شباط الحالي حيث ينطلق الأب وابنته اليوم باتجاه الهند. يشرح غسان أن «العملية ستكون الأولى من نوعها عالمياً. فبالاضافة إلى عملية زرع الخلايا الجذعية بواسطة حقن رباعية تدخل مباشرة إلى الدماغ في المنطقة التي أصابها المرض أكثر من غيرها، سيتم حقنها وريدياً بمادة جديدة هي «سيكلوديكسترين» التي تبين قدرتها على تكسير الكوليستيرول المتجمع في الدماغ». يقول غسان: «في أميركا وكندا وأوروبا، ما زال موضوع زرع الخلايا الجذعية بشكل عام ممنوعاً خارج إطار الاختبارات على الحيوانات. حتى العملية الثانية (سيكلوديكسترين) ما زالت في طور النقاش ولم تتم الموافقة عليها بعد». أما كلفة العملية بحسب تقرير أرسله الطبيب الهندي لغسان فهي 35 ألف دولار أميركي.
حاول غسان الحصول على دعم من وزارة الصحة فحصل على الموافقة على دعمه بخمسة ملايين ليرة! وهو اليوم يبحث عن قرض، كما تحاول جماعة الدعم لأهالي مرضى «نيمان ـ بيك» مساعدته في جمع التبرعات حول العالم لتغطية كلفة العملية.
«سأقوم بالخطوة الأخيرة. نحن ليس لدينا شيئاً لنخسره»، لا ينبغي لشيء أن يمنع غسان من الأمل الوحيد المتبقي في استعادة ابنته.
قصة سوسن التي امتص مرضٌ نادرٌ طفولتها... لكن والدها لا ييأس

ريم غصن
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية