• هل يدرك السوريون –على اختلافهم- سُحق الهاوية التي جرنا إليها بشار والعار الذي جلل به سوريا؟
• "بوتين" قال لبشار، وبالفم الملآن: لقد شرفناك بالقبول في نادي حكامنا التابعين لنا.
• نعم، هما جمهوريتان مستقلتان إلى درجة أنهما تسعيان وراء الاحتلال الروسي لهما وتتوسلانه بشتى الطرق
من الوهلة الأولى، ربما يوحي وصف بشار بـ"صبي بوتين" بصبغة تهكمية، أو في أحسن الأحوال بـ"تعبير مجازي" مبالغ فيه بعض الشيء، من أجل تصوير حالة التبعية والإذلال التي وصل إليها من ينصب نفسه حاكما "شرعيا" لسوريا، على يد "فلاديمير بوتين".
ولكن الحقيقية غير ذلك تماما، فنحن هنا لسنا في معرض تهكم، لاسيما وأن أحدا لن يجد أقذع ولا أشد سخرية من لقب "ذيل الكلب" الذي أطلقته موسكو نفسها على بشار الأسد، أما بخصوص "مجازية" وصف بشار بـ"صبي بوتين"، فإن الوقائع الثابتة والدلائل الواضحة، هي من ستتكلم لتخبرنا إلى أي درجة يمكن أن يكون هذا الوصف، حقيقيا وحقيقيا جدا.
ففي 4 أيلول الجاري، استقبل بشار وبمراسم احتفالية "راؤول خاجيمبا"، الذي يوصف بأنه "رئيس جمهورية أبخازيا"، وهي ثاني زيارة من نوعها يقوم بها "رئيس دولة" إلى بشار منذ اندلاع الثورة السورية التي دخلت عامها الثامن، وذلك بعد زيارة قام بها "أناتولي بيبيلوف"، الذي يوصف بـ"رئيس أوسيتيا الجنوبية".
فهل هي المصادفة البحتة التي ساقت هذين "الرئيسين" تحديدا إلى دمشق للقاء بشار، وفي هذا التوقيت بالذات؟، أم إن الأمر لا يعدو كونه مزيدا من الرسائل البوتينية الفاقعة إلى ذلك القابع في "قصر الشعب"، الذي يدير أسطوانة "النصر" واستعادة "زمام المبادرة" كثيرا هذه الأيام.
طبعا ليست مصادفة، والدليل أن "الرئيسين" اللذين زارا بشار تباعا، ما هما سوى "صبيين" تابعين تمام التبعية للرئيس الروسي، ومعينين من قبلها على إقليميين انفصاليين انتزعتهما روسيا من جورجيا عبر تجنيد وتسليح مرتزقتها في هذين الإقليمين.

*اقبله صاغرا
فـ"أوسيتيا الجنوبية" ليست سوى إقليم صغير في وسط شمال جورجيا، تناهز مساحته 3 آلاف و900 كم، فيما يعد سكانه 52 ألف نسمة، أما "أبخازيا" فهي إقليم جورجي في شمال غرب البلاد، مساحته تقارب 8 آلاف و600 كم، وسكانه نحو 243 ألف شخص.
وكلا الإقليمان الانفصاليان أعلنا نفسيهما، وبأوامر من موسكو، "جمهورية مستقلة"، ورغم مرور سنوات طويلة على هذا الإعلان، فلم تعترف بهما إلا عدة أنظمة لا تجاوز أصابع اليد الواحدة، وكان أول المعترفين "بوتين" وآخرهم بشار، الذي أعلن نظامه في 29 أيار 2018، أنه اتفق مع الإقليمين الانفصاليين على "تبادل الاعتراف وإقامة علاقات دبلوماسية على مستوى سفارة".
ولم يكتف بشار بهذه المهزلة التي أمرته بها موسكو، بل تمادى في الاستهزاء بقرار قطع العلاقات الذي اتخذته "جمهورية جورجيا"، احتجاجا على اعتراف بشار بالإقليمين الانفصاليين، دفعة واحدة.
فقد اعتبرت خارجية النظام حينها أن ما أقدمت عليه "جورجيا"، هو خطوة "ليس لها أي أثر"، وفق ما قال مصدر في الخارجية لجريدة "الوطن" المملوكة لرامي مخلوف.
وفي هذا الخصوص، ليس من الصعب تخيل هاوية التبعية لبوتين، التي رمى بها بشار نفسه ورمى معه سوريا، بحيث أضحت الأولوية للاعتراف بكيانين انفصاليين لا وزن لهما ولا ذكر، ولو على حساب قطع علاقات بجمهورية معترف بها من كل بلدان العالم، وعضو في جميع المنظمات الدولية.
وهذا سلوك لا يمكن أن يقدم عليه أي نظام مهما بلغ من الحماقة، إلا أن يكون ذيلا لنظام آخر يريد أن يصفي حساباته مع الآخرين، ولكن من كيس غيره وليس من كيسه الشخصي، وهذا عين ما أتقنه "بوتين" الذي حول سوريا، وبمساعدة بشار، إلى مجرد أداة لتسديد الفواتير البشرية والمالية والسياسية باهظة الثمن.
وحتى يكتمل مشهد الإذلال، فقد كان للتوقيت دوره، فما إن اعترف بشار بـ"أوسيتيا" و"أبخازيا" حتى بادر "رئيس" الأولى، أناتولي بيبيلوف، الذي بالكاد يصل رتبة محافظ لدى بوتين، إلى زيارة دمشق، والمشي على نفس السجادة الحمراء التي مشى عليها يوما ما زعماء بارزون في المنطقة والعالم.
ولم يلبث "بوتين"سوى 40 يوما تقريبا فأرسل محافظه الآخر، راؤول خاجيمبا، الموصوف بـ"رئيس أبخازيا"، ليحط رحاله في "قصر الشعب"، ويحظى باستقبال القادة الكبار، واللافت أن إحدى الصور التي وثقت زيارة "خاجيمبا" كشفت حجم "الرئيس" الذي وفد على بشار وقدرات "جمهوريته"، حيث وصل بطائرة مملوكة لـ"الخطوط العربية السورية"، تأكيدا على أن أمر الزيارة قد صدر من "بوتين" الذي بات يعامل سوريا كـ"إيالة" تابعة له، يأمر "متصرفها" أن يرسل طائرة من سوريا وكأنه يأمر بإرسال طائرة من ملاك روسيا الاتحادية تماما.
وكان "بوتين" عبر هذه الخطوات وغيرها يقول لبشار، جهرا وبالفم الملآن: لقد شرفناك بالقبول في نادي حكامنا التابعين لإمبراطوريتنا، وعليك قبول هذا الشرف صاغرا.

*ليس سرا
وليقنع بشار مواليه بأنه "رئيس" فعلا، وأنه يستقبل "الرؤساء" فقد تولى إعلامه نفخ "الحدث" بكل ما استطاع فتحدث عن "مباحثات موسعة"، و"معاهدة صداقة وتعاون" و"اتفاقات" و"علاقات تخدم مصلحة البلدين والشعبين الصديقين"، علما أن ما سنعرضه من حقائق حول "جمهوريتيّ!" أوسيتيا وأبخازيا، يثير الشفقة، بكل ما في كلمة الشفقة من معنى.
فـ"الجمهوريتان" تقران على الدوام، وفي كل مناسبة بسيطرة روسيا عليهما، بل وتتوسلان أن يتم إلحاقهما بموسكو، رجاء أن يكون هذان الإقليمان و"شعبهما" و"رئيسهما" ضمن القيصرية التي يحلم "بوتين" ببنائها.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، دعت "جمهورية" أوسيتيا "المستقلة"، في ربيع 2016 إلى تعديل جوهري على "دستورها"، يضيف قفرة صريحة تبيح شرعنة الاحتلال الروسي بل وطلبه رسميا، حيث تقول الفقرة المقترحة: "بناء على نتائج الاستفتاء الشعبي في 19 كانون الأول 1992، يحق لرئيس جمهورية أوسيتيا الجنوبية بالتشاور مع البرلمان، تقديم طلب للقيادة الروسية بضم جمهورية أوسيتيا الجنوبية إلى روسيا ككيان جديد في روسيا الاتحادية".. وهذا "ابتكار" لم يسبق للتاريخ أن دون شبيها به، ولكنه ليس كل ما تفتق عنه ذهن بوتين و"صبيانه".
ففي ربيع 2017، وقبل "انتخابه" ليكون "رئيسا" لأوسيتيا، أطلق "بيبيلوف" عندما كان رئيسا لبرلمان البلاد، تصريحا لا يمكن تخيل سماعه إلا في مشفى المجانين أو يلعقون أحذية من يقتفون آثار راسبوتين وستالين، حيث قال "بيبيلوف" حرفيا: "إن رغبة شعب أوسيتيا الجنوبية في الانضمام إلى الاتحاد الروسي ليست سرا"، وهو التصريح الأخير الذي كان لازما له ليرقيه "بوتين" من مختار (برتبة رئيس برلمان)، إلى محافظ (برتبة رئيس دولة مستقلة).
وأبعد من ذلك، ذهب "بوتين" إلى تعرية موقفه من أوسيتيا وأبخازيا، عندما قال في حوار صحفي عام 2009، إن الإقليمين وجها مررا وتكرارا طلبات "الانضمام" إلى روسيا، وكلمة "الانضمام" هنا هي التعبير المخفف عن الالتحاق التام بروسيا، وتحويل احتلالها المباشر للإقليمين إلى احتلال مباشر وصريح.
ولم ينس "بوتين" في ذلك الحوار، أن يظهر حرصه على مواطني "أبخازيا" وأوامره بتسهيل "الإجراءات البيروقرطية" في سبيل تجديد الجوازات الروسية المنتهية الصلاحية التي يحملها عشرات الآلاف من "الأبخازيين"، وتعليماته بخصوص تيسير عبورهم على الحدود!، بينما قواعده العسكرية تنتشر في الإقليمين، ومرتزقته يتحكمون بمصيريهما، وجواسيسه يراقبون كل شاردة وواردة.
وتحدث "بوتين" في تلك المقابلة (خلال زيارته لأبخازيا) بعنجهية الآمر المسيطر، لا بأسلوب "الضيف" الذي يجب أن يتحلى بالحد الأدنى من التهذيب، مشبها "الجمهوريتين" على حد وصفه بالطفل الذي يولد في ظروف عسيرة، ومنوها بأنهما في النهاية "دولتان صغيرتان"، قبل أن يقول إن هناك دولا صغيرة وبكثرة في العالم، ذكر منها على سبيل المثال، "موناكو" و"سان مارينو".

*مقارنات يخشونها
والحقيقة أن حديث "بوتين" عن "الدول الصغيرة" ومحاولته إجراء مقارنات مغلوطة، ولي أعناق أشباه الدول لتبدو دولا.. هي مما دفعنا لفتح دفاتر "أوسيتيا" و"أبخازيا" من الناحية الاقتصادية تحديدا، فاصطدمنا بأرقام مخجلة تثير السخرية والذهول.
لا تقاس الدول طبعا بمساحاتها ولا بعدد سكانها، ولو كان كذلك، لكان الإقليمان الجورجيان الانفصاليان متقدمين على عشرات الدول المستقلة والمعترف بها رسميا على مستوى العالم كله، فـإمارة "أندورا" الواقعة بين إسبانيا وفرنسا، تعادل نحو 468 كم مربع، وعدد سكانها نحو 77 ألفا، وناتجها الإجمالي 3.2 مليار دولار، ومعدل نصيب الفرد منه يقارب 37 ألف دولار، إما إمارة "ليختنشتاين" المتاخمة لسويسرا فمساحتها 160 كم مربع، وعدد سكانها قرابة 38 ألفا، وناتجها الإجمالي 5.3 مليار دولار، نصيب الفرد منه أقل من 100 ألف دولار بقليل.
وحتى لا نتهم بالانتقائية، فسنقف عند المثالين اللذين ساقهما "بوتين" نفسه عندما تحدث عن "صغر" حجم أوسيتيا وأبخازيا، محاولا تعزيتهما وتعزية نفسه، بأن هناك "صغارا" كثرا في العالم، مستدلا بإمارة موناكو وجمهورية سان مارينو، فالأخيرة تقع جغرافيا ضمن شبه الجزيرة الإيطالية وتعادل مساحتها 61 كم مربع، مع سكان يعدون 33 ألفا، وناتج الإجمالي يقارب 2.10 مليار دولار، حصة المواطن الواحد منه أكثر من 60 ألف دولار.
أما إمارة موناكو ذات السيادة، والتي تحيط بها "فرنسا" من جهاتها البرية الثلاثة، فهي أصغر دولة شاطئية على وجه الأرض بمساحة تزيد قليلا جدا عن 2 كم مربع!، وعدد سكان يناهز 39 ألف نسمة، وناتج إجمالي يعادل 6.5 مليار دولار، نصيب الفرد الواحد منه 168 ألف دولار.
فما هو موقع إقليمي "أوسيتيا" و"أبخازيا" الانفصاليين، اللذين يصر "بوتين" على تقديمهما بصفة "جمهورية مستقلة وذات سيادة"، بل ويرسل "رئيسيهما" إلى دمشق لإجراء "المباحثات" وعقد "الاتفاقات" والتعبير عن مواقف "الدعم" للنظام في حربه ضد "الإرهاب"؟
تقول الأرقام المتفائلة، إن الناتج الإجمالي لـ"أوسيتيا" يعادل 81 مليون دولار، وإن نصيب الأوسيتي منه يناهز 1500 دولار فقط، أما الناتج الإجمالي لـ"أبخازيا" فهو 500 مليون دولار، حسب الأرقام الرسمية القابلة للتشكيك، ومع ذلك فإذا افترضنا صحتها، فإن نصيب الأبخازي الواحد لا يزيد عن ألفي دولار إلا قليلا.
وبمقارنات أخرى، يخشى بوتين وبشار وكل طاغية متعجرف وفاسد من إجرائها، فإن "أوسيتيا" على صغر مساحتها تعادل ألفي دولة من حجم "موناكو"، ولكن الأخيرة تنتج أكثر من "أوسيتيا" بنحو 81 ضعفا.
ورغم أن مساحة "سان مارينو" تقل عن "أبخازيا" بـ140 ضعفا، فإن الأولى تنتج أكثر من الأخيرة بـ4 أضعاف على أقل تقدير، علما أن الوصول إلى تقديرات حقيقية لحجمي اقتصاد "أوسيتيا" و"أبخازيا" متعذر حتى على كبرى المؤسسات والمنظمات الدولية المتخصصة، كونهما تفتقران أصلا إلى بنية الدول ومقوماتها.

*أقل من معتقلي سوريا
من كل ما أوردناه أعلاه، يحق لنا كسوريين (بغض النظر عن اتجاهاتنا وانتماءاتنا) أن نتساءل عن الهاوية السحيقة التي أسقطنا بها بشار، والعار الذي جلل به سوريا، البلد الذي لم يكن في أسوأ حالته ليقبل بمهازل من هذا النوع، ولا ليفكر بها، حيث يقف رئيس حكومتها ووزراؤها، على عتبة "محافظ" لدى "بوتين"، يفاخرون بتوقيع اتفاقات مع إقاليم بالكاد تطعم نفسها، مثل "أبخازيا" التي يقول منشور صادر عن غرفة التجارة والصناعة فيها: "توفر جمهورية أبخازيا في فصل الشتاء للسكان منتجات اللحوم و الحليب بنسبة 100% و خلال فترة الصيف و العطلات فقط توفر البلاد ما يقارب 40% من هذه المواد و ذلك بسبب ازدياد السكان و السواح"!، فيما وصلت المنتجات السورية إلى دول كثيرة حول العالم، وبلغ الناتج الإجمالي ذات يوم قرابة 70 مليار دولار، ومع إنه فقد قسما كبيرا من قيمته تحت ضربات حرب بشار المجنونة، فقد بقي الناتج الإجمالي مقبولا ويعد بعشرات المليارات من الدولارات.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن زيارة "رئيسي" أبخازيا وأوسيتيا إلى بشار، تدعونا لطرح سؤال افتراضي وموجع في نفس الوقت.. ماذا لو تولى بشار لفترة حكم هذين الإقليمين بكل ما فيهما من سكان، وسلط أجهزة مخابراته عليهم، هل كان ليبقى أوسيتي او أبخازي في الشارع.. الجواب الأقرب للواقع: لا، فمعتقلات بشار تعج بأعداد تفوق عديد سكان "أوسيتيا" و"أبخازيا" مجتمعتين.
إيثار عبدالحق – زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية