في إحدى ساحات مدينة "سراقب" بريف إدلب بدا الفنان الشاب "وليد أبو راشد" منهمكاً بتجهيز مسرح تفاعلي عبارة عن لوح خشبي ودمى عرائس، ويهم بوضع نص المسرحية التي أنجزها بعد تسجيله لها على الجوال لتشغيلها على مكبر الصوت، فيما جلس عشرات الأطفال أمامه وهم يتهيؤون للاستمتاع بما سيقدم والتفاعل معه علها تنسيهم مآسي الحرب ووطأتها الثقيلة.
بهذه الإمكانيات المتواضعة دأب الفنان السوري الشاب أبو راشد على رسم الابتسامة على وجوه أطفال ريف إدلب في ظل الحصار والظروف المأساوية التي يعيشونها منطلقاً من شعار وضعه لنفسه وهو "أعطني خبزاً ومسرحاً أعطيك شعباً مثقفاً" المستوحاة من مقولة الأديب والكاتب المسرحي الألماني "برتولد بريخت". وقدم الفنان العشريني أكثر من عرض فيما يُسمى بـ"مسرح العرائس" والرسوم المتحركة وعروضاً في خيال الظل "كراكوز وعيواظ" مع الفنانة "سلافة حجازي" بهدف تقديم الدعم النفسي والتعليمي للأطفال وخاصة المتسربين من المدارس وإعادة شيء من طفولتهم الضائعة بفعل الحرب.
ولد أبو راشد في مدينة سراقب بريف إدلب عام 993 ولم يكمل دراسته بسبب ظروف الحرب بعد أن كان يتهيأ لدخول معهد التمثيل، وفي عام 2008 انضم إلى فرقة "شباب سراقب" التي تقدم عروضاً مسرحية ثقافية وترفيهية هادفة للأطفال في إدلب وريفها، ونال عام 2011 بطاقة شكر على مستوى إدلب وريفها في التمثيل المسرحي، وكان -كما يروي لـ"زمان الوصل"- يشارك في عروض تفاعلية مسرحية للكبار والصغار، وبعد استشهاد عدد من زملائه في الفرقة وهجرة آخرين خارج البلاد عام 2013 عمل أبو راشد في عدد من العروض المسرحية والاسكتشات التي تحكي عن معاناة الثورة السورية من المتسلقين عليها، وكان حينها -كما يقول- يشتغل في المسرح العرائسي و"الكرفان السحري" في مدارس وملاعب سراقب، وانتقل لاحقاً إلى الحارات والساحات، وانفصل بعدها عن الفرقة لأسباب شخصية ليؤسس فرقته الخاصة وبالتوازي مع هذه التجربة قدم أبو راشد عملاً أطلق عليه اسم "سراديب -2018" نسبة لاسم سراقب القديم، ويربط العمل وهو من النوع الدرامي التوثيقي بين عادات وتقاليد مدينتي سراقب ودمشق، من خلال شخصيتين من المدينتين، وكيف كان أهالي المدينتين يعيشون أجواء البساطة في حياتهم اليومية بين عامي 1967 و1985.
كان لدى الشاب الفنان صالة صغيرة مفتوحة على الشارع في أحد شوارع "سراقب" قام بتجهيزها لتكون مكاناً مناسباً للعرض وبدأ مع صديقه "أيهم حاج حسين" بتقديم رسوم متحركة ومسرح عرائس بأسلوب تعليمي وترفيهي، كل عرض في حي من أحياء المدينة إلى جانب عرض أسبوعي ثابت في الصالة التي جهزها قرب منزله.
وقدم من خلالها مسرحيته "الفأر والأسد" التي تروي المسرحية وهي من نوع المسرح التفاعلي قصة فأر يخاف من خياله، ولفت صانع المسرحية إلى أنها تضم ثلاث شخصيات وأثناء العرض يختار أحد الأطفال أن يساعده في إدارة المسرحية كأن يقوم بإدارة الصوت وتشغيل أو إطفاء "البافل"، وآخر يؤدي النص في "كركوز وعيواظ" مثلاً لأن هاتين الشخصيتين تُقدمان بشكل مباشر دون تسجيل، وهذا يمنح الأطفال الذين يؤدون هذه الأدوار شعوراً بالثقة وبأنهم قادرون على التأثير وتقديم أشياء مهمة وبالتالي إخراجهم من الحالة النفسية الصعبة التي يعيشونها جراء الحرب وزرع البسمة على وجوههم.
وأشار محدثنا إلى أن التيار الكهربائي في مدينة "سراقب" مقطوع طوال 24 ساعة، ما يحرم أطفالها من رؤية التلفزيون ولذلك جهد أن يقدم أعمالاً ترفيهية تعليمية تعتمد على الحركة والمسرح والرسم والقصص لتكون بديلاً عن التلفزيون.
وشدّد مخرج "الفأر والأسد" على أن طفلاً ينمو على التفاعل مع عروض مسرحية هادفة أقوى بكثير من طفل يكبر على أصوات الانفجارات والقذائف، مضيفاً أن تقديم مثل هذه الأعمال للأطفال في أجواء الحرب يؤكد للعالم أننا باقون على خشبة المسرح ولدينا القدرة على مقاومة كل البشاعات والدمار، وإذا كان السلاح يحرر مناطق ما، فإن المسرح يحرر أنفساً وعقولاً.
وتعيد تجربة "أبو راشد" إلى الأذهان جزءاً من مسيرة خيال الظل هذا الفن الموغل في القدم الذي أحياه الفنان الراحل "عبد الرزاق الذهبي" والفنان المغيّب في سجون النظام" زكي كورديللو".
وحول الغاية من إعادة تقديم هذا الفن وبخاصة في ظروف الحصار والحرب، أشار محدثنا إلى أن الغاية من ذلك إيصال فكرة عن هذا الفن الممتد لأكثر من 10 آلاف سنة من زمن الإغريق إلى يومنا هذا، والتذكير بأن خيال الظل هو أبو المسرح وإن انسحب من حياتنا كالكثير من فنون الفرجة والمتعة البصرية.
وكشف أبو راشد أنه بصدد الاشتغال على فنون مسرحية أخرى كـفن "الميكانيكا" الذي يعد أصعب أنواع الفنون المسرحية، ويعتمد على حركة الجسد واليدين، وكل حركة يجب أن تكون متناسقة مع جسم المؤدي نظراً لأن العمل في هذه الحالة يعتمد على الجسد كله.
فارس الرفاعي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية