السنوات الطويلة للمحنة وفقدان الكثير من السوريين الأمل بحل قريب يعيدهم إلى ديارهم، دفع بهم، أو بالكثير منهم، إلى التعاطي شيئا فشيئا مع مناطق لجوئهم، لاسيما في دول أوروبا، كبلد مستقر وليس مجرد محطة مؤقتة، وهذا أمر قد لا يلامون عليه، فبينهم عشرات آلاف الأطفال لهم الحق بأن يعيشوا حياة طبيعية، ومثلهم آلاف الفتية وهؤلاء أيضا من حقهم أن تستوعبهم مقاعد الدراسة وأن يكون لهم أحلامهم وطموحاتهم، وهو أمر لا يمكن أن يكون بمعزل عن طبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه.
للمجتمعات الجديدة على السوريين "قوانينها وضوابطها" وهي نتاج قرون من تراكم المفاهيم الاقتصادية والسياسية والقانونية، تتناسب مع المجتمع الأوروبي بكل منظوماته بدءا من الفرد فالأسرة وانتهاء بالدولة، وهي منظومة ليست خيرا مطلقا كما يعتقد البعض الذي أخذ يتعاطى معها على أساس هذا التصور، إلى أن يصل لمرحلة يدرك كارثية هذا الاعتقاد، لاسيما في الجانب المرتبط ببنية الأسرة وعلاقاتها.
وتزداد سوداوية النتائج عندما يترافق اعتقاد الأهل بـ"الخير المطلق"، بتلقين الأطفال سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بأن كل المفاهيم المجتمعية والعادات والتقاليد السورية هي مجرد مفاهيم بالية متخلفة علينا الابتعاد عنها.
وهذا يفقدهم جهازهم المناعي الذي يقاوم السلوكيات المنحرفة.
بالمقابل، الأمر الذي لايقل خطورة عما سبق، هو التعامل مع مجتمعات اللجوء على أنها "الشر المطلق" فليس لعاقل أن ينكر العدل -وهو نسبي أيضا- والتعليم والقانون وتعلم احترام الممتلكات العامة وقيمة الوقت، ومنح الإنسان بعض الحقوق التي كانت في سوريا بمثابة "أهداف" يحيا الإنسان في سبيل إنجازها.
أن يشكل السوريون كياناتهم المجتمعية الخاصة في دول اللجوء له من الإيجابيات الكثير، فهي على الأقل تمنع هويتهم من الذوبان، أو هكذا أعتقد، لكن هذا لا يعني أن ننقل أمراضنا المجتمعية -وما أكثرها- إلى دول اللجوء، إذ يندر أن نسمع عن تعرض لاجئ سوري للأذى و"النصب" وغيره من شخص ينتمي لجنسية غير سورية.
للقضايا المجتمعية أهل اختصاص هم أولى بطرح مثل هذه القضايا ومعالجتها، لكن قصة مثيرة للاشمئزاز دفعتني للإشارة إلى هذا الموضوع، ملخص القصة أن تضطر إدارة مدرسة في دولة أوروبية لأن تعلق لوحة على بابها الرئيسي مفادها "ممنوع على الطلاب السوريين ارتداء ملابس من الماركات التالية.." وقد أوردت في لوحتها أسماء الماركات.
أما السبب في ذلك هو أن بعض الطلاب السوريين في هذه المدرسة الابتدائية "يعيّرون" البعض الآخر بأن ملابسهم من محلات أو ماركات متواضعة.
ما تلفظ به الطلاب لا شك أنه نتاج تربية بيتية تؤكد أن "بعض شعبنا لا يستحي"، وأؤكد على كلمة "بعض" فالكثير من السوريين صغارا وكبارا يمثلون نماذج تحتذى ليس فقط من السوريين بل من الأوروبيين أنفسهم.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية