أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

نحات سوري يبرع في ترميم الآثار التركية

صبوح

أمام المحراب الأثري المقرنص في جامع "علاء الدين كيقباذ الأول" الذي يعود تاريخ إنشاؤه لأكثر من ألف عام بمدينة "عينتاب" وقف النحات السوري "مصطفى صبوح" ممسكاً بإزميل ومطرقة، ومحاولاً ترميم الأضرار التي لحقت به جراء تعاقب السنين بحرفية عالية ودقة متناهية تبدو أشبه باستخدام الطبيب لمبضع الجراحة، وهو العمل الذي نذر نفسه له منذ سنوات وبات مصدر رزقه ومبعث عشقه في آن معاً، ليصبح بعد فترة قصيرة من لجوئه إلى تركيا واحداً من أهم مرمّمي الآثار هناك رغم أنه لم يحظ بتعليم جامعي في هذا الاختصاص الدقيق والمعقد.

ولد "صبوح" عام 1972 في مدينة "جسر الشغور" حيث درس المراحل الأساسية في التعليم، ثم انتقل إلى اللاذقية ليدرس هناك المرحلتين الإعدادية والثانوية، وكان اهتمامه الظاهر بالرسم سبباً في تبني أساتذته لهوايته ومنهم "جورج هامبو" مدربه الأول كما يروي لـ"زمان الوصل" قبل أن يعود إلى "جسر الشغور" ليتلقى تدريباً على الرسم على يد المدرس "حسن خرفان" الذي أتاح له تنظيم معرض يضم 30 من لوحاته.

وتابع بعد ذلك تلقى مبادئ الرسم بالرصاص والفحم بطريقة علمية كالظل والنور والمنظور والتشريح على يد عدد من الأساتذة منهم "عبد الناصر العبدو" و"نوري أرمنازي" و"جميل قاشا" الذي حرضه –كما يقول-على ترك الرسم والاتجاه إلى النحت، وتعلم على يديه أسس وأساليب فن النحت على الصخر النهري ذي الأشكال والألوان والصلابة المختلفة، فصار النحت هوايته المفضلة. 

بعد تلك المرحلة دخل "صبوح" كلية الآداب في حلب، ولكنه لم يستطع التأقلم مع ما ﻻ يحبه في أسلوب الدراسة الذي يعتمد على الحفظ البصم والمغاير تماماً لطريقته في الدراسة، فترك الكلية وحوّل أوراقه للمعهد الفندقي لنيل وثائق التأجيل عن الخدمة العسكرية والعمل، وبعد اندلاع الحرب انتقل إلى بيروت وهناك كان أول احتكاك له بعالم الترميم حيث عمل –كما يقول- في ترميم وسط بيروت التاريخي (السوليدير)، ونجح -كما يؤكد- في ترميم أبنية قديمة وجميلة ومن خلالها اكتسب خبرة كبيرة في مجال الترميم، وكانت هذه التجربة بداية عشقه للآثار والتاريخ. ويردف المرمم الإدلبي "كانت زيارة القلاع والأبنية الأثرية والتلال إحدى ملذاتي التي كانت تُخرجني من الواقع المضجر لتعود بي إلى التاريخ وأحداثه وحضاراته ودوله".


"صبوح" لفت إلى أن عمله في لبنان كان بمثابة الدراسة الأكاديمية العلمية والعملية بسبب وجود عدد كبير من المهندسين العرب والأجانب ومنهم "وليد ريحانية" و"جورج ودانيال أسمر" والمهندس الإنكليزي "نيكوﻻس" والإيطالي "مازولا" وآخرين كثر من ألمانيا وكوريا وجنسيات أخرى.

بعد انتقاله إلى تركيا عام 2013 بدأ النحات "صبوح" العمل كمرمم في جامع "أيوب أوغلو"، ثم انتقل إلى مدينة "كيليس" التي يعيش فيها الآن مع عائلته ليعمل مع شركة "باشاق" في ترميم جامع "كيليس" الكبير.

وتمكن-كما يقول- من ترميم محرابه الأثري المقرنص ومزاريب وأرضية الباحة، كما نحت وأشرف على بناء الشادوران –أي النافورة باللغة التركية– وخزانها الخاص للوضوء وهو بناء معروف في المساجد العثمانية كالموجود في مسجد بني أمية.

واستمرت إنجازات الفنان في أوابد تركية عدة، ومنها ترميم جامع "المشايخ" في نزب ومسجد "الشهيد صالح" في جبال "برتك بأﻻزق"، وشارك -كما يقول- في ترميم حمام "بالو" تلك المنطقة الأثرية الهامة، كما شارف على الانتهاء من ترميم مسجد "أوشاق" الكبير ومأذنته التاريخية، عدا عن قيامه بترميم العديد من المشيدات الصغيرة كالمقامات والمساجد الصغيرة وكذلك منزل والي "هاتاي" القديم.

يبدأ "صبوح" مراحل ترميمه بإزالة كل ما هو جديد كالباطون والحديد والخشب غير الأصلي ومفاتيح الكهرباء وأسلاكها، ثم يتابع المهندسون المختصون عملهم بعدها -كل حسب اختصاصه- ليخرجوا المخططات اللازمة والتي سيعتمد عليها في عملية الترميم الكلية وتأتي مهمته -كما يقول- بإبدال الحجر المتعرض للتلف بحجر جديد وبنفس المقياس والشكل واللون، وحتى بنفس مقياس ضربات المطرقة والشاحوطة ذات أسنان المشط، مضيفاً أنه يجهد للالتزام أثناء عمله بالمعايير الموضوعة دون ارتجال وهذا أمر ضروري في الترميم –حسب قوله– حيث يعطي العمل صورة لما قبل ومابعد الترميم، ويحرص على التعامل مع القطع الأثرية بدقة وحذر، لأن أقل خطأ في الترميم لا يغتفر.


ويسعى المرمم الأربعيني إلى محاكاة العمل القديم محاولاً الالتزام بالأساليب المتبعة قديماً مع السرعة والدقة في التنفيذ -مما جعله مصدر ثقة لدى المسؤولين عن تلك الأبنية، وبخاصة مديري الأوقاف في تلك الوﻻيات، لدرجة أنهم راحوا يوكلون إليه الأعمال الدقيقة ويجبرون المتعهدين على ذلك.

وكشف محدثنا أن عمل المتعهدين يأخذ بالاعتبار عادة حساب الربح وتفادي الخسارة، ما يحد من جودة بعض الأعمال بسبب تدخلهم، مشيرا إلى أن حبه للآثار والأبنية القديمة والحجر المنحوت خاصة يضعه دائماً في موضع المسؤولية الوجدانية.

ولفت إلى أنه لا ينظر من خلال عمله في الترميم للناتج المادي والأجر كما ينظر لتلك النتيجة التي تنطبع في ذاكرته، وتلك الفرحة التي تنتابه عند إتمام الترميم، فيشعر وكأنه قد أدى أمانة وضعها النحات والبناء الأصلي في عنقه، فأوصلها لمن بعده بكل راحة واطمئنان.

ولم يخف "صبوح" حزنه على ما جرى ويجري من تدمير همجي طال معظم آثار سوريا العظيمة ابتداء بتدمر وباقي آثار البادية السورية إلى جامع "خالد بن الوليد" وكذلك مسجد "زكريا الأموي" في حلب، وليس انتهاء بآثار إدلب وغيرها- وباتت هذه الأوابد -كما يؤكد- بحاجة لمعظم خبرات وشركات والهيئات المختصة في الترميم وإعادة التأهيل، ولكن هذا الأمر لا زال بعيد المنال لما ستتطلبه تلك العملية من تكاليف باهظة ﻻ يقدر عليها بلد تعرض لحرب تدميرية لسنوات طوال، إلا إذا تدخلت هيئات دولية كاليونيسكو وجمعت التبرعات لتلك المهمة.

وأعرب محدثنا عن أمله بأن تنتهي الحرب التي دمرت كل شيء ويستعيد الإنسان السوري بعض ما فقده وتعاود عجلة الحياة دورانها من جديد بنظام يكفل للناس حريتهم ويصون كرامتهم التي سُلبت منهم لعشرات السنين في حكم البعث والديكتاتوريين حافظ وبشار الأسد.

زمان الوصل
(184)    هل أعجبتك المقالة (192)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي