طوّع الفنان السوري الشاب "عبد الستار منصور" إمكانيات الخط العربي لينجز لوحات حروفية تمزج بين اللون والحرف والمضمون والروح في وحدة تآلفية متناغمة للوصول إلى لغة بصرية تجريدية، وهو المشروع الذي بدأه منذ سنوات وتابعه في أوروبا بعد وصوله إلى فرنسا لاجئاً عام 2016.
والمدهش في تجربة "المنصور" التي أثارت إعجاب الفرنسيين وتفاعلهم أنه بلغ العقد الثاني من حياته وهو أمي، وعمل مزارعاً وزاول مهناً عدة كنجارة الباطون وغسيل السيارات إلى ما قبل التحاقه بالخدمة الإلزامية، حيث تعلم فيها القراءة والكتابة، واتجه لفن الخط العربي الذي برع فيه وأصبح مدرساً له فيما بعد.
ينحدر "المنصور" مواليد 1984 من مدينة "القصير" (جنوب غرب حمص) لأسرة بسيطة ودرس الصفوف الثلاثة الأولى في مدرسة "الوليدية" والميتم الإسلامي، وخرج بعدها لينخرط بالعمل المهني كي يعيل أسرته، وكان لديه موهبة وميل للرسم حينها، ولكن لم يكن بإمكانه تأمين المال لشراء مواد الرسم الأولية، فكان –كما يروي لـ"زمان الوصل" يستخدم أعواد الشجر المحروقة وأكياس الاسمنت، وبعد إتقانه للكتابة بدأ بتعلم أساليب الخط من كتاب للخطاط "هاشم محمد البغدادي".
ثم عمل في مجال الدعاية والإعلان من خلال تصميم لوحات و"كروت فيزيت" و"كروت" أعراس وزينة سيارات ولافتات قماشية.
مع بداية الحرب أصيب "المنصور" بشظايا قذيفة "هاون" نقل إثرها إلى أحد مشافي لبنان، وهناك عاد -كما يقول- لممارسة الرسم نظراً لطول فترة علاجه ـ وفي عام 2015 التحق الفنان المصاب بفريق "الإحسان الثقافي" في قضاء "عكار" اللبناني، حيث عمل مدرساً للرسم للأطفال اللاجئين إلى مطلع نيسان ابريل من عام 2016، وبعدها تمكن من الحصول على لجوء إلى فرنسا عن طريق جمعية ألمانية بواسطة راهب من جماعة "Taizé".
في نيسان ابريل/ 2016 وصل "المنصور" إلى فرنسا ليبدأ مرحلة اجتماعية وفنية جديدة في حياته، حيث حصل على مساعدة من جماعة "Taizé"، التي هيأت له مكاناً لممارسة الرسم، وقدمت له ما يطلب من أوراق وأقلام خاصة بالرسم، وبدأت بعض الجهات الفنية والثقافية تعرض عليه إقامة معارض لديها، حيث شارك خلال سنة ونصف بأكثر من سبعة معارض في أنحاء مختلفة من ولاية "Bourgogone" في فرنسا، ومنها معرض "CHEVAGNY NOUELLES PASSIONS وLes Mères Des Noël وLa Vallor Des Artistes" إلى جانب معرضين في القرية التي يقطن فيها.
وكانت هناك -كما قال- جمعية تهتم بتبادل الثقافات ولديها مشروع دوري باسم "ربيع الشعراء"، وأثناء النشاط تم تعليق لوحاته.
ولفت محدثنا إلى أن موهبته وبراعته في الخط لقيت إقبالاً من المراكز الثقافية التعليمية والثقافية، وتم دعوته لتعليم الخط في مركز الفنانة الفرنسية "آرليت باسكال" وغيرها –رغم أنه لا يجيد الفرنسية، وأعطى الفنان الشاب دروساً عن تاريخ الخط العربي والقصب والحبر، وخلال التدريب أنجز مع بعض الفرنسيين تجربة تتضمن عبارات "المحبة" و"السلام" و"الحرية" واعتاد –كما يقول- على كتابة أسماء أصدقائه الفرنسيين تقديمها كهدايا لهم وكان يرى علامات الفرح والثناء في عيونهم على هداياه التي تبدو متواضعة ولكنها تحمل الكثير من الدلالات القيمة بالنسبة لهم.
في هذا الشهر كان "المنصور" مع مرحلة مهمة في حياته الفنية في المغترب هو المعرض، وهي معرضه الذي أطلق عليه اسم "L'ardeur" أي الحماسة، ونُظّم في مجتمع "Taizé" لحوار الأديان الذي ضم مسلمين من جزائريين ومغربيين. وتطغى الحروفية المعروفة أيضاً بالمرسوم الخطي على لوحات "المنصور" وهي تيار في الفن التشكيلي العربي ظهر في أربعينيات القرن الماضي ويقوم على توظيف الخط أو الكلمات العربية في رسوم تشكيلية، وشهد ازدهاراً كبيراً في غير بلد في المشرق والمغرب والسودان ومصر.
وحول بداية اهتمامه بهذا النوع من الفن التشكيلي، لفت محدثنا إلى أن ما دعاه لخوض هذه التجربة هو المجتمع الفرنسي، حيث لاحظ اهتمامهم جداً بالثقافات الجديدة عليهم، ولم يختر الرسم لأن أغلب الفرنسيين –كما يقول– ألفوه بمختلف مدارسه ومذاهبه الفنية، بل اتجه إلى الحروفية الجديدة عليهم ولمس ردة فعلهم على أسلوب وأحرف الخط العربي، لافتاً إلى أنه فوجئ بتفاعلهم وتوقعهم لما يكتبه قبل أن يترجمه إلى كلمات.
وأشار محدثنا إلى أنه يعشق الخط لديواني وعندما لمس بعض من سبقوه بزمن بعيد يكتبون بطريقة الأحبار فقط قرر أن يكتب بألوان "الاكرليك" ليعطي للوحة حيوية ومساحات تعبيرية وفضاءات جمالية جديدة ويكسر الروتين المعتاد، ويسعى جاهداً-كما يقول- لتطوير لوحاته وأسلوبه وتقنياته الفنية والكلمات التي يخطها مستعيناً بقصائد لابن عمه الشاعر "نورس المنصور".
ولفت الفنان الثلاثيني إلى أنه غير مهتم ببيع لوحاته، وإنما يطمح -كما يقول- إلى نقل ثقافة الخط العربي والتعريف بهويته ومدى صعوبة إتقانه وشرح وضبط الأحرف بكافة أنواعها بالنقاط ومدى اختلاف كل نوع خط عن سابقه، مشيراً إلى أنه لطالما رأى اندهاش جمهوره واستمتاعهم بهذا الفن العريق.
وتحدث الفنان القادم من ضفاف العاصي بنبرة مؤثرة عن تأثير الحرب عليه كفنان وإنسان، حيث أُصيب جراء القذيفة التي تعرض لها بآثار بادية على وجهه وسترافقه مدى الحياة كما يقول، وخلفت له فقدان شفته السفلى وأسنانه السفلية أيضاً وظل لأكثر من سنة ونصف وهو يتلقى العلاج.
وأضاف "كانت الحرب محفزاً له على ضرورة شرح معاناة السوريين في كل محفل ومعرض ولقاء وإيصال رسالة مفادها أن السوريين شعب يحب الحياة ولديه طموح دائم وإرادة قوية على تجاوز محنتهم".
وعبّر "المنصور" عن طموحه بتعلم اللغة الفرنسية ليسهل عليه التواصل وإيصال فنه ومعاني ما يكتبه بشكل أجمل وتوجيه رسالة لكل لاجئ سوري أن ينطلق من حيث هو "فلا يأس يقتلنا وإنما أمل يحيينا".
فارس الرفاعي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية