"بيروت مثل أم منهمكة بالغسيل وإذا بان فخذاها قالوا عنها عاهرة"..هكذا وصف الشاعر "محمد الماغوط" بيروت المدينة العزيزة على قلبه في لقاء أجرته معه مجلة "الناقد" اللبنانية، وهو الذي هرب إليها بعد أن عرف فقط في دمشق كما يقول حذاء "عبد الحميد السراج".
اليوم يصرخ ناشط سوري لا أستطيع الذهاب إلى بيروت، ومطارها يثير الذعر في قلبي، بيروت لم تعد مدينة الهروب الكبير، ونحن السوريين بالتحديد على قوائم شبهتها.
بيروت التي احتلت ذاكرة أجيال سورية متعاقبة كمنجاة لهم من عسف النظام، أو فسحة تيه لأولئك الفارين من خدمة العلم، وحتى عمال البناء كانوا يرون فيها متسعاً للحياة والعمل رغم غلائها.
في الأيام الأولى للثورة السورية كان المطلوبون من نشطاء "فيسبوك" ومؤسسو منصات التظاهر يفرون عبر الجبال وطرق التهريب إلى بيروت طلباً للأمان، خصوصاً أن مخابرات النظام خرجت من لبنان، ولكنهم اكتشفوا بعد فترة وجيزة أنهم لم يغادروا أعين الأمن السوري..فهنا في قلب بيروت من يتربص بهم، ومن سوف يسلمهم للأجهزة الأمنية السورية بعد حين.
أما الصحفيون وبعض المعارضين فوجدوا فيها بعض الأمان المؤقت قبل أن تنال منهم أيضاً مؤسسات الأمن اللبناني على أنهم يشكلون خطراً على لبنانهم أولاً ...فكانت الخيارات الأخرى في البحث عن منافٍ جديدة، وما صيحة محمود درويش (بيروت خيمتنا الأخيرة) سوى لحظة شعرية كاذبة.
في حديث مع "زمان الوصل" يقول الشاعر الفلسطيني السوري "رائد وحش" ابن مخيم "خان الشيح" المقيم حالياً في ألمانيا عن رحلة فراره لبيروت: "وصلت إلى لبنان مشياً على الأقدام في بداية 2013، عندما لم تعد ظروفي تسمح لي بالبقاء في سوريا..أقمت في بيروت سبعة شهور دون أوراق، ورغم خوفي الدائم من الحواجز الأمنية، والتحرك مشياً في كثير من الحالات تجنباً للوقوع في فخ أمني، إلا أن المساحة البيروتية التي عشتُ فيها واللبنانيين الذين كنت على احتكاك معهم، منحاني ترحاباً دافئاً حوّل حالة الهرب الشخصية إلى ذكرى تدمغ القلب كالوشم".
اليوم من منفاه في ألمانيا يخشى "وحش" من هول ما يسمع من حكايات العنصرية والخوف من بيروت: "كلما طالعتني أخبار عنصرية في مكان ما من لبنان ضد اللاجئين السوريين، أشعر أنني كنت في لبنان آخر، أو لعل الحقيقة أن هناك أكثر من لبنان، بعض هذه "اللبنانات" ضحاياها هم اللبنانيون قبل غيرهم... لهذا العنصرية لا يمكن أن تكون مشكلة وطنية، بل مشكلة اجتماعية، تخص تصورات معينة عند بعض الجماعات ليس غير".
إعلاميون سوريون توزعوا في بلدان العالم يرون أن بيروت ومطارها سقطا من قواميس رحلاتهم، ولم تعد هذي المدينة نافذة العودة كما كانت بداية الرحيل..هناك ذعر من أولئك المتربصين بهم الذين يدققون في جوازات سفرهم ومن أي البلاد عادوا.
"زيدان زنكلو" أحد الصحفيين الذي غادروا البلاد هربا عبر الحدود الشمالية يلمس طرفاً آخر من الخشية: "بالتأكيد هناك خشية من الذهاب إلى لبنان، لأسباب عديدة تبدأ بالمضايقات في مطار بيروت من قبل متعاونين مع حزب الله بين موظفي المطار، المضايقات تتم لناشطين وصحفيين معارضين للنظام ولاسيما القادمين من المطارات التركية... إضافة لعنصرية فاضحة تجاه السوريين من قبل فئات لبنانية".
"فراس محمد" صحفي سوري يقيم في اسطنبول يتحدث بشغف عن بيروت التي أحبها، وكانت أعذب مشاويره وسهراته فيها، وعن ولهه الذي تعشّق المدينة بشعر محمود درويش...ولكن الخشية من المطاردة تلاحقه الآن يقول: "ضمن الواقع الحالي في لبنان لا اعتقد بأنه يمكنني المرور بمطار بيروت خاصة بعد تكريس سيطرة حزب الله اللبناني على مفاصل الدولة اللبنانية بشكل عام ومطار بيروت بشكل خاص".
أما بخصوص تجربته فيقول (ن.ع) الصحفي المقيم في "غازي عينتاب" التركية: "العناية الإلهية هي التي أنقذتني من حواجز حزب الله اللبناني على طريق المطار والتي تلعب دور المخابرات السورية، ولبنان الذي كان ربيع العرب للأسف دخل تحت عباءة الإيرانيين السوداء".
قلة تكاد تكون غير منظورة هي التي بقيت في بيروت من الهامسين بالتغيير، وأغلب هؤلاء ارتضوا البقاء صامتين أو استبدلوا عملهم بما يليق مع عدم التعرض لهم وسط بحر من الكراهية التي باتت تتنفس ريحه..بيروت.
في "ذاكرة للنسيان" يؤرخ محمود درويش للحظات والأيام الأخيرة التي عاشتها المقاومة الفلسطينية المحاصرة في بيروت 1982: "فلماذا يطالب هؤلاء الذين ألقت بهم أمواج النسيان على َساحل بيروت أن يشذوا عن قاعدة الطبيعة البشرية؟ لمَ يطالبون بهذا القدر من النسيان؟ ومن هو القادر على تركيب ذاكرة جديدة لهم لا محتوى لها غير ظلٍ غير مكسور لحياة بعيدة في وعاء من صفيح صارخٍ؟ أهناك ما يكفي من النسيان كي ينسوا؟).
بيروت اليوم خرجت من حلم الهاربين إليها...وفقط ينظر خلفهم بهلع أولئك الهاربين منها.
ناصر علي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية