أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الإمبراطورة والحمار واللاجئ.. حسين الزعبي*

لو كان "تللو" بيننا لفضل الحمار على الكثير من البشر - جيتي

يروى أن الامبراطور الألماني غليوم الثاني زار دمشق برفقة زوجته في العام 1898، فخرجت جموع الأهالي لاستقباله، ولما وصل مدخل قلعة دمشق لفت انتباه الامبراطورة حمار أبيض، فطلبت ﻣﻦ والي الشام في حينه ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺎﺻﻢ ﺑﺎﺷﺎ ﺃﻥ ﻳﺄﺗﻴﻬﺎ به لتأخذه إلى ﺑﺮﻟﻴﻦ كتذكار من دمشق. وبعد عناء توصل الوالي لصاحب الحمار، وهو بحسب ما اشتهر من الحادثة "أبو ﺍﻟﺨﻴﺮ ﺗﻠﻠﻮ"، فطلب منه أن يهدي ﺍﻟﺤﻤﺎﺭ إﻟﻰ ﺯﻭﺟﺔ الامبراطور، ﻓﺎﻋﺘﺬﺭ "تللو".


لم يكن لدى الوالي عاصم باشا، ثقافة "العفش والرفس والمصادرة" فاضطر، رغم غضبه، أن يعرض عليه شراء الحمار، إلا أن "أبو الخير" رفض ذلك أيضاً، ﻭﻗﺎﻝ للوالي: "ﻳﺎ ﺍﻓﻨﺪﻳﻨﺎ، ﻟﺪﻱ ﺳﺘﺔ ﺭﺅﻭﺱ ﻣﻦ ﺍﻟﺨﻴﻞ ﺇﻥ ﺷﺌﺖ أهديتها ﻛﻠﻬﺎ للامبراطورة ﺃﻣﺎ ﺍﻟﺤﻤﺎﺭ ﻓﻼ".

استغرب الوالي وسأله عن السبب، فأجابه: "يا ﺳﻴﺪﻱ إذا أخذوا ﺍﻟﺤﻤﺎﺭ إﻟﻰ ﺑﻼﺩﻫﻢ فستكتب ﺟﺮﺍﺋﺪ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻋﻨﻪ، وسيسأل الناس: من أين أتيتم بهذا الحمار؟ ﻓﻴﺮﺩﻭﻥ ﻋﻠﻴﻪ: ﻣﻦ ﺍﻟﺸﺎﻡ، ﻭﻳﺼﺒﺢ ﺍﻟﺤﻤﺎﺭ ﺍﻟﺸﺎﻣﻲ ﺣﺪﻳﺚ ﺍﻟﻨﺎﺱ وسخريتهم، وسيقولون أﻳﻌﻘﻞ أن الامبراطورة ﻟﻢ ﺗﺠﺪ ﻓﻲ ﺩﻣﺸﻖ ﻣﺎ ﻳﻌﺠﺒﻬﺎ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﺤﻤﺎﺭ!! ﻟﺬﻟﻚ ﻟﻦ أقدمه كهدية ﻭﻟﻦ أبيعه".

ﻧﻘﻞ ﺍﻟﻮﺍﻟﻲ عاصم باشا كما تقول القصة الشهيرة، كلام "تللو" للامبراطورة وزوجها، فقررا لإعجابهما بموقفه منحه ﻭﺳﺎﻣﺎً ﺭﻣﺰﻳﺎً، اشتهر بـ"وسام الحمار".

ما فعله "تللو" كان عين الصواب، ويمثل عمق الانتماء للوطن، لكنه لو كان بيننا الآن لتمنى لو أن حميرا كانت بدل بعض النماذج من الذين ركبوا آلام الناس ليقذفوا بأنفسهم إلى أوروبا تحت مسمى اللجوء هربا من الموت، سالبين بذلك حق غيرهم ممن يستحق الأمان فعلا.

لو كان "تللو" بيننا لفضل الحمار على الكثير من البشر، فالحمار ومهما ابتعد عن بيت صاحبه يعود إليه، وهذا بلا شك شكل من أشكال الوفاء والانتماء، بينما تطالعنا نماذج وجدت في أوروبا ساحة مناسبة لخلع ما تبقى ليس من انتماء، بل من حياء في بعض الأحايين. ليس مطلوبا من السوريين الذين يعيشون في بلاد الغرب أن يحملوا مدنهم السورية على كتفهم ولا حاراتهم وشوارعها، فللمجتمعات الجديدة قوانينها وأعرافها التي لا بد من التعاطي معها لتحقيق أدنى درجات النجاح.

وما من خدمة يمكن أن يقدمها مغترب لبلده سواء كان لاجئا أم مهاجرا عاديا أفضل من أن يكون ناجحا في مكان إقامته، إلا أن هذا لا يعني، أن نبدأ بـ"الخلع" خلع المفاهيم التي نحملها وكأنها رداء قذر، نعم نحتاج لغربلة بعضها، لا أن نبدأ بتأريخ أنفسنا من اللحظة التي وهبنا فيها إمكانية التمرد على أنفسنا.

ملاحظة: ليس المقصود مما سبق الإساءة للحمير، فالصين عمدت مؤخرا إلى زيادة وارداتها من جلود الحمير التي تدخل في استخدامات الطب الشرقي بعد انخفاض أعدادها في الداخل من 11 مليون حمار في تسعينيات القرن الماضي إلى 6 ملايين في الوقت الحالي.

*من كتاب "زمان الوصل"
(352)    هل أعجبتك المقالة (387)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي