كانت بلاد الشام وسوريا-تحديداً- مركزاً مهماً لمباحث علم الفلك الذي ارتقى على يد علمائها في القرون الماضية وأصبح علما استقرائياً يستند على الملاحظة الحسية، ومبنياً على الأرصاد لتعليل حركات الكواكب والأجرام السماوية وتفسير الظواهر الفلكية.
ومما يدل على أهمية بلاد الشام في تطوير هذا العلم اختيار الخليفة (المأمون) لدمشق في إنشاء مرصد في جبل قاسيون جهّزه بأدوات فلكية منها الإسطرلاب الذي كان (إبراهيم الفزاري) المتوفي 777 هـ قد صنعه على غرار الإسطرلاب اليوناني ويقال أن الأمويين ابتنوا قبل تولي المأمون للخلافة مرصداً في دمشق وبقي هذا المرصد وحيداً حتى عصر المأمون فأمر باتخاذ المراصد الفلكية وقدم لها ما تحتاج من أموال لبنائها ولتجهيزها بأدوات الرصد وجمع علماء النجوم في عصره وأمرهم أن يصنعوا آلة يرصدون بها الكواكب كما فعل بطليموس صاحب (المجسطي) ففعلوا وتولوا الرصد بـ (الشماسية) في بغداد وجبل قاسيون في دمشق سنة 214 هـ ولما توفي المأمون 218 هـ توقفوا عن العمل وقيدوا ما كانوا قد تبينوه من رصدهم وسموه "الرصد المأموني" –كما يقول الباحث عبد الجبار السامرائي- في بحث بعنوان "آلات الرصد العربية".
وإذا كان مرصد قاسيون قد انمحى أثره الآن فإن ما أنجزه علماء دمشق وغيرها من المدن من تراث فلكي لا يزال إلى الآن محفوظاً في المخطوطات والشواهد المنتشرة في المتاحف السورية من آلات الإسطرلاب والميقاتات "آلات حساب الوقت" و" المربع التام" و "البراكير" و " المساطر" وأداة "ذات الربعين". وقد "اكمل هؤلاء العلماء ميراث بطليموس وتجاوزوه على كل المستويات. كل هذا تم وأنجز في وحدة تامة وانسجام كامل مع الغايات التي يهدف إليها الإسلام ". كما يقول المفكر (روجيه غارودي) في كتابه "ما يعد به الإسلام" وهذا هو البتاني عالم الفلك الكبير في القرن التاسع يكتب قائلا : "انطلاقا من علم النجوم يصل الإنسان إلى البرهان على وحدة الله والتعرف على حكمة الخالق في خلقه".

علم الميقات
عني علماء دمشق مثل غيرهم من علماء الفلك العرب برسم خرائط للسماء ووضع قياسات مراتب النجوم تبعا للمعانها كما فعل المارديني و ابن الشاطر والبتاني وقاموا بكتابة (الزيج) وهو عبارة عن حسابات فلكية لرصد الحركات السماوية التي توصلوا إليها، وقد كانت من أهم الغايات التي قصدوا إليها من مراقبة حركات الفلك، ضبط الوقت لأداء الصلاة فنشأ علم جديد سمي (علم الميقات) وكان العالم (الموقت) يقصد إلى غايتين أساسيتين هما :
1- ضبط ميقات الحركات الفلكية لمعرفة الأوقات عامة.
2- ضبط ميقات أداء الصلوات بصورة خاصة.
وتوصلوا برصدهم لحركات القمر إلى التنبؤ بالأحوال الجوية والى معرفة الفصول الأربعة وكان لمراقبتهم لظاهرتي الكسوف والخسوف اثر واضح في تطور معرفة الفلكيين الأوربيين الذين جاءوا بعدهم في دراسة مثل هذه الظواهر –كما يقول الباحث الدكتور سالم الأنصاري - في دراسة بعنوان (حقائق من علم الفلك عند العرب) كما برع علماء دمشق بصناعة الساعات الميكانيكية بعد فترة طويلة من العمل في الساعات المائية، ومن أشهر الساعات الميكانيكية تلك التي كانت منصوبة على (باب جيرون) في المسجد الأموي وأنشأها محمد بن رستم الساعاتي في عام 1221 م.
سبط المارديني
من علماء الفلك الدمشقيين الذين ارتقى هذا العلم على أيديهم العالم (بدر الدين بن محمد الدمشقي) الشهير بـ (سبط المارديني) الذي عاش في نهاية القرن الخامس عشر وترك تراثاً غنياً في الفلك والحساب الفلكي والرياضي ومواضيع الفقه والفرائض وعلم الميقات وله في علم الفلك أكثر من (35) مخطوطة موزعة على مكتبات العالم. و(لعل العلاقة بين بدر الدين وبين آثاره في علم الميقات تأتي – كما يرى الباحث المهندس لؤي بلال – من معهد التراث العلمي بحلب لـ " زمان الوصل "من كونه عمل موقتا في الجامع الأزهر في مصر فكان فيها عمدة الموقتين ونال ألقاباً دينية على عمله ذاك واستخدم بدر الدين (الربع) كأداة رصد بسيطة لضبط الوقت والاتجاهات والأوقات التي كانت معرفتها أمراً ملحاً لإقامة الصلاة في حينها وتحديد سمت القبلة لأي كان وفي أي مكان ووقتما شاء وفي معرفة استخراج عرض البلاد والباقي والماضي من الليل من جهة أي كوكب ومعرفة الساعات والماضي والباقي منها وقياس ما يراد ارتفاعه عن سطح الأرض وغير ذلك مما نجده في رسائله الفلكية ".

الرد على كوبرنيكوس
ومن علماء دمشق الفلكي (ابن الشاطر) الذي كان له قصب السبق في إطلاق نظرية أن الأرض تدور حول الشمس طبقا لحساباته الفلكية التجريبية وقد سبق بهذا نظرية كوبرنيكوس في المجموعة الشمسية ممهدا بذلك لكشوفات العصر الفلكي الجديد وقد عمل ابن الشاطر كموقت في الجامع الأموي بدمشق حولي 777 هـ ثم جال في البلدان العربية يحضر مجالس علمائها ويتصدّر بعضها وفي غضون ذلك اطلع على كتاب (أبي علي المراكشي في الفلك) وعلى كتاب (الإسطرلاب الكامل) للمزي وبعد تلك الجولات العلمية التي أمضى فيها سنوات طويلة عاد (ابن الشاطر) إلى دمشق حاملا معه آلاف الكتب والمخطوطات وأدوات الرصد والقياس وسواها وفيها تابع عمله كموقت في الجامع الأموي بقية حياته ولـ (ابن الشاطر) مخطوط نادر هام بعنوان (تعليق الأرصاد) يذكر فيه نظريته في الرد على (كوبرنيكوس) واثبات أن الأرض والكواكب الأخرى تدور حول الشمس ولكن هذا المخطوط ضائع- للأسف – وهو غير مفهرس في أية مكتبة من مكتبات العالم وبالإضافة إلى نظريته العلمية الهامة أضاف ابن الشاطر إلى ميدان علم الفلك آلات فلكية متطورة ومنها ما سماه (الربع التام لمواقيت الإسلام) وله رسالة سماها (تحفة السامع في العمل بالربع الجامع) وإلى (ابن الشاطر) ينسب وضع المزولة التي انتصبت أعلى مئذنة العروس بالجامع الأموي ويقال أن دمشق قد زينت عند وضعها وبقيت إلى حدود 1290 هـ في المئذنة ولكن نظامها اختل بمرور الزمن واختلاف الرياح والأمطار ولم يعد لها وجود الآن.
ومن علماء بلاد الشام في الفلك أيضاً (البتاني أبو عبد الله محمد بن جابر) الذي ولد في الرقة عام 878 م وتوفي عام 918 م ويعد (البتاني) من أعظم الفلكيين العرب الذين عرفتهم أوربا من بعد وقد اشتهر فيها بلقبه اللاتيني (الباتغينوس) وكان من العلماء المبدعين في مجال علم الفلك أصلح كثيراً مما جاء عن بطليموس وضبط حساب الأفلاك التي يدور فيها القمر وبعض النجوم السيارة وقاس اختلاف الدائرة الظاهرية لمسير الشمس بدقة فائقة وطول السنة في الأقاليم الحارة وطول الفصول الأربعة وترجم (البتاني) معظم مؤلفات الإغريق في علم التنجيم مثل (مفتاح النجوم) وعرف بأرصاده الدقيقة التي قام بها في مراصد الرقة وأنطاكيا والتي صمنها كتابه (الزيج الصابي) وتوالى على وظيفة مؤقت في الجامع الأموي في دمشق العديد من العلماء الفلكيين ومنهم (زين الدين عبد الرحمن الصالحي) الذي توفي عام 841 هـ – 1437 م والإمام (شمس الدين محمد بن أبي بكر الحلبي) المعروف بـ (التيزيني) الذي ولد 828 هـ وتوفي 911 هـ وعمل رئيسا للموقتين في الجامع الأموي سنوات طويلة والشيخ (شمس الدين بن عبد الرحيم) المعروف بـ (المزي) الذي برع في الهيئة والحساب والفلك.

صندوق اليواقيت
أما في حلب فقد لعب الجامع الأموي الكبير دوراً هاماً في تقدم العلوم الفلكية فقد كان فيها مدرسة للفلك، ومن علمائها في هذا المجال الشيخ (خليل بن غرس الدين) المشهور بـ (ابن النقيب) 1494 – 1563 م الذي درس في القاهرة الحساب والميقات وعندما عاد إلى حلب اشتغل في تدريس هذه العلوم وغيرها في الجامع مدة طويلة. وممن اشتهروا في حلب بعلوم الفلك ( أحمد آغا) المعروف بـ (الجزار) الذي ألف (زيجا) في (بروج الأفلاك ودلالات الكواكب على البلدان وسرعة دوران السيارات وكيفية معرفة طول البلاد وعرضها) ومما يذكر أن وظيفة التوقيت في الجامع الأموي بحلب – كما يقول – الباحث (محمد صبحي صقار) "كانت متوارثة في أسرة عبد الله الحنبلي الميقاتي منذ أواسط القرن السادس عشر ولا تزال حلب تحتفظ إلى الآن بعدد من الساعات الشمسية التي تدل على تطور علم الفلك فيها ومنها (ساعة المكتبة الوقفية) التي سماها مخترعها (ابن الشاطر) المهندس والموقت في الجامع الأموي بدمشق باسم (صندوق اليواقيت الجامع لأعمال المواقيت) وموقتات الجامع الأموي الكبير في حلب وفي جوامع (العثمانية والطروش والمهمندار وقشلة الترك) وتدل هذه الساعات –التي تعتمد في عملها على حركة ظل الشمس– على الدور الأصيل والأساسي الذي لعبه علماء الشام في علم الفلك منذ مطلع العصور التاريخية.
وفي متحف التراث العلمي العربي في حلب الكثير من الأدوات الفلكية التي تدل على تطور علم الفلك في بلاد الشام ومنها إسطرلاب في ثلاثة صفائح من نحاس قطره 24 سم وإسطرلاب مقوَّى قطعة واحدة وربع نحاسي من عمل (ابن الشاطر) وبيت إبرة على أطرافه أسماء البلدان وهو من النحاس وربع المجيب من خشب وكرة سماوية صغيرة جميلة دقيقة الصنع وملونة وهي محفوظة داخل غلاف كروي من الخشب وآلة من نحاس على شكل دوائر سبع متحركة حول محور تعرف بها الأوقات.
خالد عواد الاحمد - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية