أكثر الأسئلة تكراراً وتداولاً بين الناس ذلك السؤال الذي يطرح مقولة التوزيع العادل للثروة على الجميع، بحيث يستفيد الجميع من نتاج التقدم الاقتصادي والانجازات التي تحققها الدولة.
طرحت في الأسبوع الماضي السؤال التالي: هل تعتقد أنك تستفيد من نتائج النمو في الناتج الاجمالي على مجموعة من العاملين في الدولة، ولم أكن مندهشاً عندما جاء جواب الجميع بالرفض، ذلك لأن مثل هذه المسألة تثير الجدل من ناحية وتستدعي أن تتدخل الجهات المعنية لتشرح الفائدة التي تتحقق من الاصلاح الاقتصادي. وأكثر الأمور التباساً في أذهان الناس هو تصورهم أن واقعهم المعيشي مؤشر على تردي الأمور وليس تحسنها. فكيف يستقيم الأمر مع ما نسمعه من المسؤولين عن تحقيق انجازات واصلاحات.
جوهر المشكلة يكمن في تصور الكثيرين أن ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي وزيادة الناتج المحلي وتحسن معظم المؤشرات الاقتصادية سيؤدي بالضرورة إلى تحسن مستوى حياة جميع الناس.
ويتبع ذلك السؤال التالي: إذا كان كل هذا التحسن في الاقتصاد سيحقق فوائد للجميع، فمتى تتحقق هذه الفوائد وكيف؟
مثل هذا التصور السائد والذي يرى أن التحسن في حياة الناس سيأتي سريعاً يوقع الكثيرين في الفخ، فينظرون إلى تصريحات المسؤولين بكثير من السلبية واللامبالاة رغم أن هذه التصريحات صحيحة ومبنية على أرقام معتمدة وهناك قصد من وراء نشرها باعتبارها مكسباً للحكومة ونجاحاً لخططها الاقتصادية.
في الأسبوع الماضي دخلت في حوار مع اقتصاديين من عدد من الدول العربية وقد لاحظت أن الجميع يهتم بالموضوع نفسه وأن المشكلة موجودة في جميع هذه الدول دون استثناء.
يطرح الدكتور حازم البيلاوي السؤال الصعب فيقول كيف يستقيم الأمر فمن جهة تتحدث السلطات الحكومية عن نجاحات اقتصادية باهرة وعن انجازات اقتصادية ويتحدث المواطنون عن معاناتهم التي تزداد يوماً بعد يوم.
من وجهة نظر الدكتور البيلاوي ان الجواب المنطقي على هذا السؤال هو أن نتائج النمو تتركز في أيدي مجموعة قليلة من الناس بحيث يمكننا القول ان كلام الجهتين صحيح تماماً فهناك نمو تشهده معظم الاقتصاديات العربية. لكن بالمقابل فإن غالبية الناس لاتشعر بالتحسن لأن النمو الاقتصادي يأتي متزامناً مع تركيز للثروات وإعادة توزيعها لمصلحة قلة من المواطنين، وهذا بالطبع يناقض مبادئ العدالة والمساواة.
ويقدم لنا الدكتور غسان حبش من وزارة الاقتصاد والتجارة مقاربة للموضوع من زاوية أخرى فهو يرى أن إجراء من هنا وإجراء من هناك لايحقق مكاسب للمواطن لكن إذا دارت عجلة الاقتصاد وتمكنا من توفير استثمارات مناسبة وأزلنا العقبات أمام قوى الانتاج فإن المواطن سيلمس تحسناً، مثل هذه الاجراءات تزيد الدخل وتؤمن فرص عمل مناسبة وتشعر أن الاقتصاد بمجمله يسير بخطا سريعة إلى الأمام. لكن اتخاذ بعض الاجراءات وان كان في إطار عملية اصلاح اقتصادي بمفردها قد يخفض من مستوى حياة المواطن وقد لايعطي النتائج المطلوبة.
المشكلة في العولمة
وفي الوقت الذي يتفق فيه الجميع على أن قدوم استثمارات كبيرة إلى أي بلد سيحسن من أوضاع الناس فإن هناك رأياً آخر يقول ان العولمة ستكون كارثة على اقتصاديات الدول النامية وفي رأي البيلاوي فإن العولمة تؤدي إلى اندماج في الأسواق المالية وتفتح فرص الاستثمار للجميع وعادة يلجأ أصحاب الثروات الكبيرة إلى أكثر الأسواق ربحية أمامهم ويجدون في عالم اليوم أسواقاً مالية بالغة التنوع، وبالتالي فخطر خروج الاستثمارات من الدول النامية هو خطر حقيقي لايقل عن خطر تركيز الثروات.
وخطورة تركيز الثروات لاتقتصر على مجرد ظلم اجتماعي يطول الغالبية من الناس التي تتحمل أعباء التنمية من تضحيات وصبر ومعاناة وإنما تمتد أيضاً لتشمل هروب الثروات الكبيرة في ظل اقتصاد العولمة للاستثمار في الخارج ما يترتب عليه حرمان الاقتصاد الوطني والأجيال القادمة من نتائج التقدم.
توزيع الثروة
الدكتور عبد الرزاق حساني الأستاذ في جامعة دمشق ومدير مصرف التسليف الشعبي يرى بأن هناك سوء توزيع للثروة يحرم المواطن العادي من قطف ثمار الاصلاحات الاقتصادية ويرى أن معالجة المشكلة تتم عبر اتباع سياسات مالية واقتصادية مناسبة فإعادة النظر في السياسات الضريبية وتحديد مستوى الشرائح ونسب الضريبة وتوطين المشروعات في المناطق التي تحتاجها أكثر من غيرها وبشكل مدروس ودقيق وبخاصة المشروعات كثيفة العمالة والمشروعات الصناعية بشكل خاص.
وحول هروب الاستثمارات يرى أن هروبها ليس حتمياً بل ان أصحاب الثروات والمالكين يستثمرون في بلدانهم لكن في مشروعات تزيد عائداتهم وتراكم ثرواتهم.
البيئة المناسبة
يتحدث السيد غياث دعبول عن المسألة فيرى أن العقبات التي تقف في وجه الصناعة والكلف المتزايدة تحد من قدرة الصناعي على تحقيق الفائدة للجميع، وعندما يستطيع الصناعي أن يعمل في بيئة مناسبة فإنه سيشغل عمالة أكبر وسيدرب هذه العمالة بشكل أفضل، وسيقدم انتاجاً أقل سعراً وأكثر جودة خاصة إذا تمكن الصناعي من زيادة انتاجه بكميات كبيرة لأن ذلك يؤدي إلى انخفاض في الكلفة للسلعة وهذا سينعكس على الزبون الذي سيشتري سلعة أقل سعراً.
لكن بالمقابل عندما تتراكم المشاكل أمامنا سنجد بالضرورة صعوبة في خفض الكلف وسننظر إلى استخدام عمالة أقل وفي المحصلة يحصل المواطن على سلعة أغلى .
ان العوامل الناجمة عن عدم وجود بيئة مناسبة كثيرة وتؤثر على العمل بشكل كبير جداً، خذ مثلاً مرة اتخذت إدارة الجمارك قراراً بتنزيل الحاويات والبضائع في المنطقة الحرة عن السيارات وعدم الكشف عليها على السيارات لقد تسبب ذلك لنا في دفع مبلغ كبير سنضيفه على الكلفة بالتأكيد وهو أمر كان من الممكن تجاوزه.
وأرى شخصياً أن المشكلة وسوء توزيع الثروة سيتراكم مع الأيام وأن المواطن العادي قد لايشعر بسرعة بأي تحسن، فالأسعار العالية مازالت ترتفع بوتيرة متصاعدة، وهذا سيزيد الطين بلة فكل مانفعله لتحسين حياة الناس يأخذه ارتفاع الأسعار العالمي بطريقه.
العامل الذاتي
الدكتور ابراهيم الفلاح مدير الشؤون الإدارية في المصرف الصناعي يقول ان سوء توزيع الثروة ظاهرة موجودة في كافة دول العالم وفي بلدنا أيضاً، وهناك جانبان للمسألة الجانب الأول يتعلق بالسياسات العامة التي تؤدي إلى مثل هذا الأمر وبالتأكيد فإن انتهاج سياسات معنية يمكن أن يخفف من تأثير هذه الظاهرة أما الجانب الآخر فيتعلق بالناس أنفسهم فكلما كان الشخص متمتعاً بكفاءات وخبرة في مجال معين اتيحت له فرص أكبر للعمل وخفف من تأثير الظاهرة عليه.
إن الدليل على سوء توزيع الثروة واضح وضوح الشمس للعيان فعندما تقرر المصارف أو شركات التأمين طرح اسهمها للناس نرى أن هذه الأسهم قد بيعت بسرعة قياسية في مؤشر على وجود أموال لدى فئة محددة من الناس.
أبعاد المشكلة
في جانب آخر نرى أن مكافحة الفساد ووضع حد للمضاربات وللأنشطة غير المنتجة هو السبيل الأمثل للحفاظ على مكتسبات الناس، ولنأخذ على سبيل المثال أسواق العقارات فعندما ترتفع أسعار العقارات بسرعة جنونية فإن المنتجين الحقيقيين سيرعون أعمالهم وسيتفرغون للبيع والشراء في سوق العقارات، ويقول صاحب أحد المعامل إذا كان بيع عقار أو عقارين في العام يحقق لي عائداً أفضل من أرباح معملي، فبالتأكيد سأحاول توفير الجهد والتعب وسأفكر مثلي مثل غيري في الدخول في السوق، فأرباحه قياساًَ بأتعابه جيدة جداً.
وما ينطبق على المضاربات، ينطبق على الفساد بأوجهه المختلفة.
دور الدولة
هناك إجماع من غالبية من تحدثنا إليهم على حقيقة أن دور الدولة هو الدور الأهم وأن مسؤوليتها في هذا المجال مسؤولية كبيرة جداً وخاصة ً في مجال توظيف الأموال والاستثمارات في مجالات منتجة وفعالة، وهنا على سبيل المثال يمكن أن نتوقف عند تشجيع الدولة للاستثمارات في قطاعات معينة، فمثلاً المشروعات الصناعية التي هي عصب الاقتصاد لا تتوجه إليها استثمارات كافية في حين تتجه معظم الاستثمارات نحو المشروعات السياحية والعقارية في حين أن المشروعات الصناعية أكثر فائدة على المدى البعيد وأكثر قدرة على تحقيق فوائد للاقتصاد وبعيدة عن تأثيرات السياسة وعن المشاكل التي تؤثر سلباً. وفي هذا المجال فإنه علينا ألا ننكر أن الدولة اتخذت الكثير من الخطوات الإيجابية التي تخفف من معاناة الناس.
خلاصة الكلام ان تطبيق الحلول اللازمة لن يكون أمراً سهلاً على الإطلاق، وانه يتطلب تضافر جهود الجميع فضلاً عن اتباع سياسات اقتصادية تخفف من معاناة الناس وهو أمر قد لا يكون ممكناً أو سهلاً بأي حال من الأحوال.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية