فكت "الهدن" الحصار الغذائي والدوائي عن أحياء وبلدات، وفرضت –بالمقابل- حصارا مطبقا وتعتيما كاملا على آليات وطرق وأهداف تلك "الهدن".
كانت الهدنة في مختلف مراحل الثورة مرفوضة من الثوار، بوصفها شكلا من أشكال الحوار مع نظام قاتل مجرم، حتى إنهم سموا إحدى الجمع باسم "جمعة لا للحوار".
الكلام عن "الهدن" بات يصيب الجميع بالحساسية.. النظام، الثوار، وأهالي الأحياء المعنية.
أهالي الأحياء المعنية وحتى بعض ثوارها خضعوا لضغط نفسي مكثف، شنه النظام بلا هوادة، مدعيا أن الجميع تخلوا عن المحاصرين، وصار لابد لكل حي أن "يقلع شوكه بيده".
الخوف أن تبدأ "حمى" الهدن في الانتشار في مختلف المناطق والمدن، كنوع من أنواع اللحاق بالركب، وعندها ستكون المعارضة ولاسيما الائتلاف في موقف لايحسد عليه.
النظام يسمى تسوياته "مصالحات وطنية"، وهذا هو أكبر وأخطر لغم في حقل هذه "الهدن".
أهي الكي باعتباره "آخر الدواء"، أهي قشة "الغريق"، أهي تصرف من باب "صفع" المعارضة العسكرية والسياسية التي توصف بأنها تخلت وتنازلت، أهي خيانات؟؟.. أم هي انتصار، أم حالة هلامية عصية على الوصف، فلا هي هذه أو تلك أو تلك؟!
إنها "الهدنة" كلمة السر التي تسري في بعض المناطق كما يسري النار في الهشيم؛ لتنتج "اتفاقات" لايعلم عن مضمونها وتفاصيلها حتى كثير من أهالي وسكان تلك المناطق.
وفي الوقت الذي ضمنت "الهدن" فك الحصار الغذائي والدوائي عن أحياء وبلدات في محيط دمشق ودرعا وحتى حلب وحماة، فإن هذه "الهدن" فرضت –بالمقابل- حصارا مطبقا وتعتيما كاملا على آليات وطرق، والأهم أهداف "الهدن".
انقسام
مع إن ملف الهدن شائك غامض وملغم، بل ومثير لأقصى درجات الحيرة في بعض الأحيان، فإن "زمان الوصل" وإيمانا منها بوضع أي ملف -مهما كبر- تحت الضوء، قررت فتح الملف بدءا من محيط دمشق، على أن تتناول مناطق أخرى في حلقات قادمة، بمشيئة الله.
بدأ الأمر -كما اعتاد السوريون- بسلسلة شائعات؛ لينقسم الناس بين مكذب ومصدق، ثم ما لبثت أن لاحت أول البوادر مع ما سمي "هدنة المعضمية"، ليزداد انقسام الناس بين مبارك لهذه الخطوة، أو مبرر لها، وبين مخون لمن أقدم عليها ورضي بها.
وكالعادة كان لكل فريق حججه في الدفاع عن وجهة نظره.. فـ"المباركون" رأوا الهدنة "انتصارا" للثورة ولأحد القلاع العصية على جنود النظام ومرتزقته، و"المبررون" التمسوا للمحاصرين المنهكين الأعذار، من باب أنهم صمدوا فوق طاقتهم، وتحملوا ما لا تتحمله الجبال، أما "المخونون" ففتحوا النار في وجه من وصفوهم بـ"لصوص" الثورة والمتسلقين عليها، كونهم سلموا المنطقة العصية لقمة سائغة للنظام، وتعجلوا الأمر، بينما "النصر صبر ساعة".
بعد "المعضمية" أتت المفاجأة من برزة، وهي ليست أقل من المعضمية في صمودها بوجه كل قوات ومرتزقة النظام الطائفيين، الذي كانوا -لأشهر طوال- يحاولون التقدم في هذا الحي الدمشقي، دون تحقيق نتيجة تذكر.
وعلى خطى جارته برزة مضى حي القابون فدخل في مفاوضات هدنة مع النظام، بشروط مشابهة لما تم في برزة، كما تسرب من معلومات تبقى شحيحة حول الموضوع.
المحطة الأولى.. خارج الأجندة
لم تكن الهدنة بمعناها المفصل على مقاس النظام غائبة عن قاموسه أبدا، فقد طرحها عبر عملائه أو وسطائه مرار في مناطق وبلدات عدة، من يوم أن واجه الاحتجاجات السلمية الأولى بالرصاص الحي مباشرة، وصولا إلى الكيماوي، مرورا بالبراميل وقذائف المدفعية.
وكانت الهدنة في مختلف مراحل الثورة مرفوضة من الثوار، بوصفها شكلا من أشكال الحوار مع نظام قاتل مجرم، حتى إنهم سموا إحدى الجمع باسم "جمعة لا للحوار" بتاريخ 8/7/2011، وهي للمصادفة الجمعة التي تزامنت مع خروج أكبر المظاهرات اتساعا في تاريخ الثورة، حيث قدرت أعداد المتظاهرين في مدينتي حماة ودير الزور وحدهما بما يقارب 600 ألف متظاهر!، وقد قتل النظام خلال هذه الجمعة 16 سورياً، وجرح العشرات.
مرت الثورة وطرق مواجهة النظام لها بمراحل عدة، ومع كل القصف والتدمير والتعذيب، بقي النظام "مثابرا" وبلا خجل على طرح ما يسميها مبادرات المصالحة، وبقيت شروطها على مقاسه وتحت إشرافه، باعتباره يمثل "الشرعية"، وكان جواب الثوار -حتى وقت قريب- الرد بالرفض المطلق.
وقبل أن يطوي عام 2013، وهو للمفارقة أكثر أعوام القمع الأسدي دموية، انطلق ما يمكن تسميته "قطار الهدن"، وكانت المحطة الأولى معضمية الشام، إحدى أهم المدن التي بقيت شوكة في خصر نظام الأسد، عصية على كل محاولات اقتحامه، رغم شراسة هذه المحاولات، واستماتة النظام -بكل ما أوتي من شبيحة وأسلحة دمار- للسيطرة على المعضمية لموقعها بالغ الحيوية.
ومنذ الأيام الأولى لتسرب خبر الهدنة في المدينة، اشتعلت ساحات التواصل الاجتماعي بخليط من الآراء المتضاربة، دفعت المجلس المحلي في المعضمية لشرح الموقف، وقد بدأ بيانه بالقول: "بعد حصار لمدة عام وثلاثة أشهر وبعد أن قدمت مدينة معضمية الشام 1400 شهيد وأكثر من 9000 جريح وبعد فشل النظام في اقتحام المدينة طيلة هذه الفترة مع محاولاته المتكررة من جميع المحاور، وبعد فشل الجيش الحر في المدينة نتيجة خذلان الكتائب له في المناطق المجاورة في فك الحصار عن 8500 مدني، وبعد أن ناشدنا كل من هو على كوكب الأرض من منظمات حقوقية وإنسانية، وبعد موت أطفالنا أمام أعيننا من الجوع وبعد أن نفذت الحشائش من الأرض، وبعد أكل لحوم الحيوانات التي لا تؤكل، لجأ النظام إلى عرض هدنة على المدينة من شهرين، ولم يكتب لها النجاح في السابق لكن قبل أسبوع توصل الطرفان إلى اتفاق".
وعرض المجلس المحلي بنود الاتفاق التي تتضمن وقف إطلاق النار المتبادل، ورفع علم النظام على أعلى نقطة في المدينة مقابل السماح بدخول سيارات الإغاثة.
بيان المجلس الذي صدر في 29/12/2013، جاء بعد 4 أيام على دخول الهدنة حيز التنفيذ، ومع ذلك فقد كشف البيان أن شبيحة من الحي الشرقي (تابعين للنظام) حاولوا التسلسل إلى المدينة، وقد قتل الجيش الحر منهم 5 شبيحة وجرح 10، معتبرا أن "اللافت" في محاولة تسلسل الشبيحة، عدم تدخل مدفعية الفرقة الرابعة المتمركزة على الجبل قبالة المعضمية، و"هذا يعني أنه تصرف فردي من الشبيحة، وأن النظام غير موافق على تصرفاتهم وتركهم يواجهون الموت".
وبالمقابل أقر المجلس المحلي أن كل ما أدخله النظام من إغاثة للمدينة عقب الاتفاق، لايتعدى "3 سيارات صغيرة لـ8500 محاصر"، مضيفا: "وبعد فرز المواد وتقسيمها سوف يحصل كل شخص على: 300 غرام عدس أسود، 150 غرام سكر، 500 غرام رز، رغيفين من الخبز".
ولاتزال الأخبار عن تطبيق بقية بنود الهدنة محاطة بكثير من التكتم، حيث لاشيء مؤكد، سوى أن المعضمية تعيش حالة راسخة من وقف إطلاق النار بين الطرفين، أما عودة الأهالي وإدخال ما يكفي من المواد التموينية فيبدو أنهما أمران خارج أجندة النظام في المرحلة الحالية على أقل تقدير.
المحطة الثانية.. خلط الأولويات
بعد أيام من هدنة المعضمية التي لاتزال مقتصرة على وقف إطلاق النار، و"إغاثة" شحيحة للغاية، وجدت الهدنة طريقها إلى "برزة"، الحي الدمشقي الشهير، الذي كان من أول الأحياء مشاركة في الثورة، رغم أن النظام ابتلعه عبر إحاطته بأحياء طائفية موالية، وبمراكز عسكرية وأمنية كثيرة.
حظيت "برزة" بهدنة اعتبرها البعض أفضل في شروطها من هدنة المعضمية، لاسيما أن الحي لم يكن يعاني من مشاكل نقص الغذاء، الذي أدى إلى وفيات وحالات هزال شديد كما حدث في المعضمية، ومن هنا فقد استطاع "ثوار برزة" على أن يضمّنوا اتفاق الهدنة شرطا يلزم النظام بالإفراج عن معتقلي الحي، كما تضمن الاتفاق -على ما يبدو- السماح لسكان "برزة" بالعودة إليها.
ولكن وحتى تاريخ 25/1/2014، ورغم مضي قرابة 20 يوما على سريان اتفاق الهدنة، لم يتم الإفراج عن المعتقلين، واكتفى النظام بفتح الطريق لساعات أمام الراغبين في العودة من أهل الحي، ومن محور واحد فقط، هو طريق دمشق التل.
وقد بدأ دخول الأهالي الساعة الثانية بعد الظهر، ولم يلبثوا سوى 3 ساعات، حيث خرج معظمهم عند الخامسة، محملين بصور لاتصدق عما آلت إليه بيوتهم ومحالهم من دمار ونهب.
وقال ناشطون إن دخول الأهالي إلى الحي لم يكن مقررا له أن يتم قبل الإفراج عن المعتقلين، لكن ضغوط الأهالي "المتشوقين" لحيهم، أسهمت في هذا، لاسيما أن النظام ماطل عن قصد في قضية الإفراج عن المعتقلين، فظهر الثوار في عيون الأهالي المتحمسين وكأنهم هم من يعرقلون "العودة"، رغم إن جيش النظام أخر انسحابه من مواقعه في الحي، وربطه بدخول المدنيين.
وهكذا "نجح" النظام مجددا بإثبات "براعته" في نقض العهود أو التسويف بتنفيذها على أقل تقدير، وقفز على أوليات الاتفاق، فنفذ آخر البنود على أنه أولها، وترك البند الأول والأبرز والمتعلق بالمعتقلين معلقا، وسط وعود بإحالة الملف إلى "القضاء" في غضون الأيام القادمة.
وإثر قيامه بهذا التصرف، تعززت مخاوف أهالي برزة من أن يكون النظام قد أفرغ الشرط الأهم (إطلاق المعتقلين) من مضمونه، وجيّر "الهدنة" -قدر ما يستطيع- لصالحه، إعلاميا على الأقل.
وفي دليل آخر على أن "الهدنة" لم تأخذ أبعادها الكاملة بعد، تأكدت "زمان الوصل" من أن طريق دمشق- التل (المار عبر برزة)، لايزال حتى تاريخه مغلقا، رغم ما لهذا الطريق من حيوية بالغة، حيث يعد شريان الربط الرئيس بين العاصمة والريف الشمالي لدمشق.
المحطة الثالثة.. بين الطَعم والطُعم
من برزة انتقل قطار الهدن إلى القابون المجاور، وهو حي عايش لحظات الثورة نَفَساً بنَفَس، وتدرج في مدارجها السلمية والعسكرية، وفاق كل التوقعات في مقاومته لجحافل بشار ومرتزقته، عطفا على التركيبة السكانية التي كان يضمها الحي (يشكل مدينة مستقلة بعدد سكانها)، وعطفا على وقوعه وسط مجمع أمني وعسكري له أهميته البالغة في إبقاء العاصمة تحت سيطرة النظام.
في القابون كان لـ"تنازلات" النظام طَعم آخر مختلف عن برزة والمعضمية، ما دفع البعضلوصف تلك التنازلات بـ"الطُعم"، فقد أبدى النظام استعداده لمنح الثوار حق التمركز والسيطرة على نقاط كانت خارج سيطرتهم، كما عرض على كل منشق عن جيشه إمكانية البقاء في القابون وإكمال خدمته العسكرية فيها.
ولم تخل مفاوضات الهدنة –حسب تسريبات- من بنود تخص الإفراج عن معتقلي الحي ومعالجة جرحاه، والسماح بدخول السكان إليه، وفتح الطريق أمام وصول المواد التموينية.
لكن وحتى تاريخ إعداد هذه المادة لم يصدر أي تصريح رسمي من "ثوار القابون" يوضح توقيع اتفاق نهائي بين النظام والثوار بشأن الهدنة، بل على العكس صدر تحذير لأهالي الحي المهجرين من العودة إلى الحي هذه الأيام، قبل أن يعلمهم الثوار بذلك عبر صفحاتهم الرسمية والمعتمدة.
خطر الاستفراد
رغم أن الغموض لف المقدمات والأسباب التي دفعت النظام لعرض الهدن، والثوار لقبولها، ورغم الغموض الأكبر الذي يكتنف مستقبلها ويشكك بمدى التزام نظام عرف بنقض العهود بها، فإن هناك عدد من النقاط التي تستحق الوقوف عندها، وهي "نقاط متفجرة" بحسب ما يوضح لنا مراقب ميداني، تحدث لـ"زمان الوصل" شرط حجب اسمه.
أول ما يبدأ به المراقب المطلع حديثه هو تنويهه إلى "حساسية" الكلام عن الهدن، وهي حساسية أصابت الأطراف جميعها (النظام، الثوار، أهالي الأحياء المعنية الهدن)، مضيفا: يعنينا هنا الطرفان الأخيران، أي الثوار والأهالي، فالثوار في تلك الأحياء لايستطيع أحد المزايدة على تضحياتهم، ولكنهم اليوم باتوا أكثر حساسية لمن يتساءل ولو بنية حسنة عن الأسباب الموجبة لعقد الهدن، وماذا يمكن أن تجني الثورة منها، والأهالي المشردون المدفوعون بعاطفة الشوق للعودة ليسوا أقل حساسية، حتى إن بعضهم ينبري للرد بحدة على من يحاول مناقشة تلك الهدن، من باب "شبعنا تنظيرا"، "لو عانيتم ما عانينا من تشرد وذل، لتغيرت نظرتكم".
ويتابع المراقب الميداني: الهدنة كمبدأ أمر جيد ولا غبار عليه، ولكن الهدنة مع نظام أوغل في إجرامه قضية تحتاج لمزيد بحث وتمحيص، فإذا اقترنت بأجواء وتزامنت مع ظروف، تشكل نقاطا متفجرة، كانت أولى بالدراسة وأكثر إثارة للتساؤلات.
أول هذه النقاط وأخطرها، هي أن هذه الهدن اتبعت بخبث مقصود أسلوب "الاستفراد" بكل منطقة على حدة، وهو ما يظهر للعالم وللحاضنة الثورة الشعبية أن المناطق الثائرة أصبحت مجرد "كانتونات" وليست ثورة شعب واحد ذي هدف واحد، ردد ملايين المرات: "الشعب السوري واحد".. ثورة "فزعت" فيها حمص لدرعا، ودوما لإدلب، ودير الزور لحماة.. وهلم جرا، فتعهدت كل مدينة لأختها أن تكون معها "حتى الموت".
ويواصل: صحيح أن أهل كل حي أدرى بما يصلح أموره، ولكن الرضى باتفاقات "مجزأة"، يعطي صورة مغلوطة عن الثورة والثوار، حتى ولو كانت نواياهم سليمة مئة بالمئة، ويمكن أن يزيد من تمزق "البيت الداخلي" بين الرافضين والقابلين للهدنة، ولكل حججه التي لامجال الآن لعرضها أو الحكم عليها سلبا أو إيجابا.
ويذكّر المراقب بأن الثوار رفضوا في بدايات الثورة كثيرا من الخطوات التي تقوم على أساس الاستفراد وتلبية مطالب منطقة دون أخرى، وتقديم حزمة مغريات لها مقابل سكوتها وانسحابها من مشهد الاحتجاجات، وكان رد الثوار أنهم يريدون الحرية والكرامة ورغد العيش لكل سوريا، وليس لمنطقة بعينها.
سحب البساط
ولايستبعد المراقب أن يكون أهالي الأحياء المعنية وحتى بعض ثوارها قد خضعوا لضغط نفسي مكثف، شنه النظام بلا هوادة، مدعيا أن المعارضة وبقية الثوار والفصائل تخلوا عن المحاصرين، وصار لابد لكل حي أن "يقلع شوكه بيده"، والمؤلم حقا أن هناك صفحات محسوبة على الثورة ساهمت في الترويج لهذه الرؤية، وساعدت النظام في ترسيخها من حيث لاتدري.
وتتلخص ثاني النقاط المتفجرة –حسب قول المراقب المطلع- بتزامن اتفاق الهدن مع مؤتمر جنيف2، الذي اتفق الكثيرون على خفض سقف توقعاتهم بشأن نتائجه، ولكن هذا لا يمنع أن النظام يحاول سحب بساط المؤتمر من تحت المعارضة السياسية، مواجها إياها باتفاقات داخلية "مقسطة"، وكأنه يقول لها إن هذه هي نتائج "الحوار الداخلي" الذي تحدثت عنه مرارا، ولا حاجة لي بـ"الحوار الخارجي" ولا بمعارضتكم، التي لن تثمر شيئا.
والخوف كل الخوف أن تبدأ "حمى" الهدن في الانتشار في مختلف المناطق والمدن، كنوع من أنواع اللحاق بالركب، وعندها ستكون المعارضة ولاسيما الائتلاف في موقف لايحسد عليه، حيث سيظهر بشار الأسد وكأنه حلّ جميع مشكلاته مع الشعب السوري، ولم يعد لوجود معارضة تطالب بتنحيه ومحاكمته أي دور، أو لزوم.
وينوه المراقب بأن تحذيره من استبعاد الائتلاف ونزع الشرعية عن وجوده عبر تنفيذ مصالحات وهمية، ليس بالضرورة من باب الدفاع عن نهج هذا الائتلاف ولا المجالس والهيئات العسكرية في تعاطيهم مع قضية المناطق المحاصرة، بقدر ما هو استشراف لما يرمي النظام إليه من وراء تلك الاتفاقات، وبقدر ما هو تنبيه للثوار بأن المكاسب التكتيكية مهما عظمت لا يجب أن تغني عن التطلع نحو أهداف استراتيجية، لاتتحق إلا ضمن إطار موحد تحكمه علاقة تنسيق واضحة بين مختلف الجهات والجبهات الثورية، بما لايدع أي ثغرة للنظام.
اللغم الأكبر
ويستدل المراقب على تخوفاته هذه بما يرصده من إعلام النظام، الذي يعرف -رغم كل مطباته- من أين تؤكل "كتف" المصطلحات، فهو يسمي التسويات التي يتوصل إليها "مصالحات وطنية"، وهذا هو أكبر وأخطر لغم في حقل هذه "الهدن"، لأنه يوحي أن رفع علم فوق حي من الأحياء وإطلاق بعض المعتقلين والسماح بدخول بعض المواد التموينية، يكفي لاستكمال المصالحة مع أهالي بلدات ومدن، ذاقت من ويلات القتل والاعتقال والتهجير ما لايوصف، بينما تقتضي أبسط مبادئ المصالحة أن يتم الاعتراف بـ"الأخطاء" والاعتذار عنها علنا، فضلا عن إعادة الإعمار وتقديم التعويضات المادية، وصولا إلى محاكمة المجرمين المتورطين إن أمكن، وكل هذا وغيره غائب تماما عن ما يقدمه النظام للعالم على أنه "مصالحات".
وفي الجانب الآخر يبدو بعض الثوار غير متنبهين لهذه اللعبة الخبيثة، منطلقين بكل حسن نية من البحث عما فيه "خير" أحيائهم وأهل بلداتهم.
ويختم المراقب تحليله لاتفاقات الهدن بالقول: كل مسوغات رفض الهدن موجودة، كما إن جميع مبررات القبول بها متوفرة، وتسويغ قبول أمر ما أو رفضه لا ينبغي أن يكون محل النقاش، بل الذي يجب أن يناقشه الثوار وحاضنتهم –على الدوام- هو المكاسب القريبة والبعيدة، المباشرة وغير المباشرة، لأي اتفاق ينوون توقيعه، مع ضرورة موازنتها الدقيقة بالمضار والتداعيات التي يمكن أن تقع على المنطقة نفسها وعلى غيرها من المناطق، لأن روح الثورة السورية يكمن في محاربة الأنانية والتشرذم، اللذين اجتهد النظام طويلا لزرعهما في النفوس، لعلمه أن وحدة الشعب هي الخطر الأعظم على مشروعه، وأن لا سبيل لبقائه متسلطا على رقاب العباد إلا باتباع قاعدة "فرق تسد".
دمشق - زمان الوصل - خاص
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية