في صيف عام 2005 أقامت قناة (الحرة) التي كانت حديثة العهد، سلسلة ندوات في دمشق، صورت إحداها في دمشق القديمة وتناولت واقع الإعلام السوري. كان النظام يحاول على مضض –بعد جريمة اغتيال الحريري وخروج جيشه المذل من لبنان والاتهامات التي وجهت له– أن يسوّق فكرة أنه نظام يسعى نحو الانفتاح، وأن بشار الأسد يقود مسيرة الإصلاح والتحديث.
لكن وزارة الإعلام فرضت على (الحرة) أسماء إعلامية معينة لتدافع عن صورته في وجه شبان وجهوا انتقادات لاذعة للإعلام السوري. كان من بين الأسماء التي رشحتها وزارة الإعلام (ديانا جبور) التي أصبحت بقدرة ضابط أو مخبر، مديرا للتلفزيون السوري، بعد أقل من ثلاث سنوات فقط على بداية عملها في التلفزيون كمعدة لبرنامج منوعات اسمه (مجلة التلفزيون).
في تلك الندوة، اعترفت ديانا جبور، التي تصنف بين معشر الأذكياء في النظام، اعترفت أنه (حدثت بعض الأخطاء) لكنها تساءلت: (لماذا هذا التحشيد؟!) أناس قضوا زهرة شبابهم بلا محاكمة في سجون الأسد الأب ثم الابن، يبدو الحديث عن معاناتهم: (تحشيد) إعلام ببغاوي قتل مهنة عريقة طالما أبدع فيها السوريون، وحول صحفها والكثير من صحفييها إلى مهرجين ومصفقين، صار الحديث عن مأساة عمرهم الضائع: (تحشيد) شعب لا يرى في إعلامه (الوطني) أي أثر لمعاناته وأحلامه وأي نقل لصوته، ما أدى لاستفحال الفساد وتغوّل أجهزة الأمن، ورفع رايات القهر والصمت في الصدور، يبدو انتقاده: (تحشيد) وأقصى ما يمكن الاعتراف به في كل ما جرى من جرائم، أنه: (حدثت بعض الأخطاء)!
لا أدري لماذا تذكرت صورة ديانا جبور وحججها و(ذكائها) في التقليل من آلام الناس وكارثية ما أوصل نظام الأسد سوريا إليه، وأنا أتابع حوار رفعت الأسد في برنامج (قصارى القول) على قناة روسيا اليوم!
يسأل المذيع الذي بلغ به الكبر عتيا: هل الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت عام 2011 لها أسباب موضوعية؟! فيجب قائد سرايا الدفاع، وهي أول مليشيا طائفية في التاريخ السوري الحديث: "أسباب موضوعية نعم.. في أسباب موضوعية. لأن هنالك في شوق للتغيير... في ميول للتغيير لدى الشعب العربي بالكل". لكنه يختزل تفجر الثورة على النحو التالي، وأعتذر للقراء من ركاكة النص، مع أن صاحبه يحمل دكتوراه، وكان رئيس رابطة خريجي الدراسات العليا في سوريا خلال الثمانينيات:
"الحقيقة الثورة هي طفل صغير في درعا اسمه حزب الخطيب... هيْ الثورة. وهذا الحمزة الخطيب الذي مات، تأثر بالربيع العربي القادم من مصر ومن ليبيا ومن تونس فكتب على اللوح شيئا لا يليق بتلميذ، لكنه يحق له أن يكتب ولا يُلام كونه صغيراً. فحصل تعامل مع هذا الطفل، تعامل سيء. سيء نعم... فكان الثورة... أي أنه هو الذي أشعل الثورة. أشعل الثورة لماذا؟ لأنو في درعا في الجنوب. درعا عدد سكانها قليل، وهي تجمع من القبائل ومن العشائر، وعاطفيين لا يستطيعون أن يروا هذا المنظر... فقامت الدنيا واستيقظت الجاهلية (يضحك) فالمفروض ضربة بضربة... ولكن صارت ضربة بفوضى (...) لم يعد بقا يفكرون ضربة بضربة، يُمكن قتل هذا وقتل ذلك وتصبح واحدة بواحدة... لكن فلتت الأمور، استيقظت الجاهلية، صرنا قبائل وعشائر، وكل يسعى إلى القتل".
دعكم من هذا الجهل الفاضخ والمخزي بتاريخ حدث عاصره السيد رفعت، ولم تمض عليه بعد ثلاث سنوات... فحمزة الخطيب ليس هو من أشعل الثورة، بل اعتقل وعذب في مجزرة مساكن صيدا (29/4/2011)، أي بعد ما يقرب من شهر ونصف من اندلاع الثورة، وبعد أن نزل الجيش وحاصر المدينة، وتداعى ريفها الشهم لمحاولة فك الحصار عنها... وأساساً لم تظهر صور جثة الشهيد حمزة إلا بعد شهر كامل من اعتقاله في (30/5/2011) وكانت الثورة قد قطعت أشواطاً.. ولكن توقفوا عند كلمة (تعامل شيء) قتل طفل في الثالثة عشرة من عمره، وتسليم جثته بوجه متورم، وجسد مزرق ومثقب بالرصاص، ورقبة مكسورة، وقطع عضوه الذكري... هو عند رفعت الوحش مجرد (تعامل سيء) فقط ولا يسترعي ذكر أي تفاصيل أخرى!
لم يتنازل للقول بأنه (عذب بوحشية) وفي الواقع يجب ألا يتنازل... وإلا لاتهمته السيدة ديانا جبور مديرة مؤسسة الإنتاج الدرامي حالياً بـ (التحشيد)!
وإذا جاز لنا أن نصحح للـ"دكتور" كيف بدأت الثورة ثم نعود لندقق في القضية التي أثارت ضحكه هو نفسه: (استيقاظ الجاهلية) لحق لنا أن نتساءل: هل ثورة الأهل من أجل أطفالهم المعتقلين في فرع عاطف نجيب، بعد رفض كل وساطات الوجاهة لإطلاق سراحهم هي (استيقاظ للجاهلية) بينما الثأر الفردي: (واحد بواحد) أو (يقتل هذا... ويقتل ذاك) كما ينصحنا رجل الدولة والقانون هو (مَدنية وتحّضر)؟!
عن أي جاهلية تتحدث أيها الجاهل؟! عن جاهلية انتقامك من محاولة اغتيال حافظ الأسد عام 1980 بتنفيذ مجزرة في أكثر من (900) سجين سياسي في سجن تدمر، أعطيت أنت الأوامر بتصفيتهم، رغم أنهم في المعنى القانوني والسياسي رعايا في عهدة دولة يجب تقديمهم للمحاكمة؟!
عن جاهلية الانتقام من مدينة حماه عام 1982 من أجل (250- 300) مسلح، وتدمير ثلثي المدينة وقتل أكثر من أربعين ألف من أهلها وتشريد مئة ألف آخرين بوحشية لا مثيل لها؟!
حتى بمنطقك المافياوي المخجل هذا... نود أن نسأل: متى تعاملتم في تاريخكم الوحشي كله مع أي تجاوز أو (جريمة) بمنطق: (واحد بواحد)؟! متى ارتقيتم إلى نسق نظام ديكتاتوري ينكل بمعارضيه فقط، وليس بأهاليهم وعائلاتهم وجيرانهم وأبناء أحيائهم أو أولاد قراهم؟!
ألم تقد في آذار من عام 1980 مجزرة مروعة ضد مدينة جسر الشغور بريف إدلب، لأن مظاهرة لأطفال المدارس (لا يلامون لأنهم صغار) كما تدعي اليوم، خرجت تنادي بإسقاط حكم أخيك؟!
ماذا نتذكر وماذا ننسى أيها المجرم الذي تقدم به العمر، لكن لم تتقدم به التجربة والفهم... فمازال على العهد: جاهلا، مراوغاً، سخيفاً، ثم متناقضاً ليس بين ماضيه الإجرامي وأقواله اليوم وحسب، بل بين أقواله وأقواله نفسها.
يقول أبو دريد في معرض تحليله الفذ: " أخطأت المعارضة كما أخطأ النظام". بعدها مباشرة يضيف: " والمعارضة بالأصل غير موجودة، هي وجدت وخرجت ونبتت من الخطأ. إذاً نحن نستطيع أن نقول، المعارضة اليوم هي الوجه التي ليس لها شكل، وليس له مضمون".
بغض النظر عن تصغيرك لجرائم النظام ومجازره ضد الإنسانية إلى مستوى (الأخطاء) فقط، دعنا نتفق معك بأن المعارضة أخطأت أيضاً. لكن كيف يمكن لشيء تقول عنه إنه غير موجود أن يخطئ؟! فهل يمكن أن نقول مثلا... أن عائلة الأسد قد أخطأت لشهامتها، وليس في نفس أي فرد من أفراد هذه العائلة الوضيعة المنبت والسلوك بأجيالها الثلاثة أي ذرة شهامة؟! ثم كيف يمكن أن نقول أن المعارضة أخطأت، وهي كما ترى (خرجت ونبتت من الخطأ) كيف يمكن يا سيد رفعت أن نقول عن ساقطة من ساقطات (سرايا الدفاع) التي كنت تقودها.. إنها أخطأت، وهي التي خرجت ونبتت من بيئة العهر، ونزع حجابات النساء عن روؤسهن في شوارع دمشق في الثمانينات؟!
المشكلة أننا مضطرون لشرح أوجه غبائك وجهلك من أمثلة تعرفها أنت جيداً، خشية ألا تفهم لماذا أنت جاهل وعديم ثقافة إلى درجة تثير الخجل... والمشكلة أن هناك من اعتبرك أهلاً للسؤال عن أسباب التغيير في هذا الربيع العربي، الخارج ضد أنظمة قمعية قذرة مازلت أنت أحد أبرز شواهد وحشيتها وهمجيتها... ولذلك لن يأتي ردك الألمعي بأفضل من القول:
" اللي صار أنو بدأ الهيجان، مدفوعاً بالتحريض الغربي، تحريض الحركة العربية، التغيير العربي، الشوق للتغيير، بغض النظر عن النوع اللي بده ياه، بده تغيير للتغيير فقط... وليس كل الشعب فلتت أعصابو أو بالأحرى عاطفياً مشي مع التغيير، في منهم عاطفياً مشي مع النظام لأنه يريد الاستقرار، حيث هذا النظام ما يقارب فوق الخمسين سنة وسوريا مستقرة مع حزب البعث... فلا يريد تغيير هذا النظام بين لحظة وأخرى وعلى ربيع أو وووع".
نعم هكذا بالحرف... وكلامك هذا يا سيد رفعت لا يحتاج لأي مناقشة والله... لكنني فقط سأشعر بالعار حين أتذكر الحذاء الذي كان يلبسه شكري القوتلي أو خالد العظم أو فارس الخوري من سياسيي وقادة سوريا العظام، وحين أسمع هذا المذيع الخرف، على قناة الشبيح بوتين، يصفك بأنك (سياسي سوري) أيضاً!
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية