أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

المجتمع السوري وشبح التفكك

يتعرض المجتمع السوري لزلزال مدمر، هو الأعنف والأخطر في تاريخه، زلزال يهدد بنسفه وتحويله إلى أثر بعد عين، فها هو نظام قاتل لا يرحم، يتخذ من مجتمعه عدوا، ويعلن عليه حربا ضروسا شاملة عاتية منذ ما يقارب الثلاث سنوات، حرب حياة أو موت، يستخدم النظام فيها كل أنواع الأسلحة الفتاكة، سواء على الصعيد العسكري، حيث تعمل الآلة العسكرية بكل إمكاناتها وجبروتها على قتل ما أمكن من بشر وتدمير ما أمكن من حجر.. أو على صعيد التضييق على الناس اعتقالا وحصارا وتجويعا وحرمانا من أبسط متطلبات الحياة.. أو على صعيد تدمير اللحمة الاجتماعية والروابط المجتمعية وأسس العيش المشترك بين مختلف المكونات، حيث يبذل النظام الغالي والرخيص لتأجيج النيران الطائفية والمذهبية التي تقود إلى حروب أهلية كفيلة بتدمير أعرق المجتمعات، فما أدراك بالمجتمع السوري؟

عنف النظام المنفلت، فتح الجسد السوري الضعيف المثخن بالجراح أمام كل أنواع التدخلات الخارجية والمساهمات القذرة لتزيد من حدة الصراع، وتعطي الزلزال مزيدا من القوة والخطورة، فمن اسرائيل ورغبتها في القضاء على كل فرص النهوض وعوامل القوة لدى السوريين... إلى الولايات المتحدة التي تعمل لمصلحة اسرائيل أولا وترى في الصراع السوري فرصة لتدمير المجموعات المتطرفة ثانيا واستنزاف روسيا وإيران وإرهاقهما ثالثا... إلى روسيا بأحلامها الامبراطورية ورغبتها في العودة كقوة عظمى على الساحة الدولية، وإدارة ملفاتها الخلافية مع الغرب... إلى إيران ومشروعها الامبراطوري الفارسي بأدواته الطائفية القذرة... إلى دول الخليج ورغبتها في السيطرة وهواجسها من التوسع الإيراني، ولكن أيضا بأدواتها الطائفية القذرة... وصولا إلى القاعدة وشقيقاتها من تنظيمات جهادية تكفيرية عدمية ومشروعها في إقامة دولة الخلافة على ارض الشام... يساهم كل هؤلاء بما يمثلون وما يشكلون، في صناعة هذا الزلزال وشحنه بالقدرات التدميرية.

لكن السؤال الآن، والذي يسعى هذا المقال للإجابة عنه، هو هل يقوى الجسد السوري على الاحتمال؟ هل يستطيع المجتمع السوري احتمال جبروت هذا الزلزال والخروج من تحت أنقاضه كيانا واحدا قابلا للحياة؟
لعل نظرة تاريخية قصيرة تسعفنا في تحصيل الإجابة، فالدولة السورية بشكلها الحالي دولة فتية، عمرها أقل من قرن، ظهرت إلى الوجود بعد حقبة عثمانية بائسة مديدة، ذات طابع سني، تركت آثارا طائفية سلبية على الأقليات، وبشكل خاص على العلويين عبر اضطهادهم ومحاربتهم ومطاردتهم لقرون باعتبارهم كفارا ومرتدين.. كما تركت آثارا سلبية إنما أقل حدة على المسيحيين كونها دولة دينية تعتمد الشريعة الإسلامية في حكمها. 
هذه الدولة الوليدة وقعت بعيد ولادتها تحت سلطة الانتداب الفرنسي، الذي استخدم بدوره لعبة الأقليات الطائفية بما يخدم مصالحه كمستعمر، لكن حقبة الفرنسيين على علاتها، ورغم عبث الفرنسيين بالمكونات الطائفية، حققت شيئا من التقدم في مسالة تقارب المكونات الطائفية، وذلك من بوابة مقارعة الاستعمار والنضال من أجل رحيله، حيث شكلت حالة النضال هذه عامل تقارب وتآلف فيما بينها.. 

بين رحيل الفرنسيين ومجيء البعثيين عاشت سوريا حقبة من الانقلابات العسكرية وعدم الاستقرار السياسي، لكنها رغم ذلك كانت الحقبة الأبرز والأعلى قيمة في تاريخ سوريا من زاوية تقارب المكونات الطائفية وانسجامها، فقد كان الشعور الوطني طاغيا وجامعا دفع الجميع لتجاوز انتماءاتهم ما قبل الوطنية وعلى رأسها الانتماء الطائفي، نحو انتماء وطني أسمى وأرقى، لدرجة أن يتبوأ المسيحي الأرثوذوكسي فارس الخوري منصب رئاسة الوزراء مرتين في دولة يدين 85% من سكانها بالإسلام، ولدرجة أن تنتخب دمشق بأغلبيتها السنية نائبا شيوعيا للبرلمان هو خالد بكداش وتُسقط منافسه الإخواني!!

هذه الذروة السورية باتجاه الدولة الوطنية الأنتي طائفية سرعان ما انتكست بمجيء البعث في بداية الستينات وإعلائه للشان القومي، قافزا فوق الشأن الطائفي والشأن الوطني دون تدرج ودون معالجة التصدعات الطائفية القائمة، والتي بدلا من علاجها تم دفنها، بصديدها، تحت غطاء القومية وشعاراتها البراقة.

إن هي إلا سنوات معدودة حتى قفز حافظ الأسد إلى السلطة بانقلاب عسكري، وبوصوله بدأ عهد جديد مختلف عما سبق من حيث الأهداف والوسائل والأدوات، فقد كان الهدف الحقيقي غير المعلن هو السيطرة المطلقة على الحكم وتأبيده، وكانت الوسائل والأدوات عديدة ومتنوعة، نذكر منها بعجالة المزاودات في القضايا الوطنية والقومية، وادعاء الصمود والتصدي والمقاومة والممانعة، ومنها بناء الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية وإحكام السيطرة الأمنية على العباد والبطش بكل رأي مخالف، ومنها حصر السياسة بحزب البعث ومسوخ الجبهة الوطنية التقدمية وإلغاء السياسة والفكر والثقافة من حياة الناس، ومنها تعميم الفساد... ومنها الوسيلة الأسوأ والأكثر قذارة، ألا وهي التلاعب بالمكونات الطائفية وبمسائل الأقليات، وإدارتها بطريقة تضمن تحكمه بها وسيطرته عليها لخدمة غرض بقائه، فكانت النتيجة ازدياد التصدعات الطائفية عمقا وخطورة، رغم الحرص الشديد على إبراز صورة وردية عن طوائف تعيش أرقى حالات التآخي والتعايش والوئام.
هذا ما كانت عليه حال المكونات الطائفية عشية انطلاق الثورة وبدء الزلزال، ويمكن الحديث بنفس الطريقة عن حال المكونات القومية عموما والكردية على وجه الخصوص.  

نعود إلى سؤالنا الرئيس حول مدى خطورة ما يحدث على وحدة المجتمع السوري وتماسكه، لنقول: نعم الخطر كبير جدا وهو حال ومحدق، والمجتمع السوري حديث التكون، ولم تتح لمكوناته الطائفية والقومية الواسعة الطيف الفرصة الكافية للانسجام والتلاحم وتكوين جسم وطني فوق طائفي يملك المناعة الكافية للمقاومة والبقاء، والصراع العنيف والمديد في سوريا خلال السنوات الثلاث الماضية دمر تلك الروابط الوطنية الهشة، وعاد كل سوري ليحتمي بطائفته أو عشيرته أو عائلته، لذلك، وللاسف، أرى أن الأمور ذاهبة باتجاه تفكك المجتمع وتقسيم الدولة، وليس ثمة من يستطيع إيقاف هذا المسار، أللهم إلا إذا التقت الإرادات الدولية، بحكم مصالحها، على عكس ذلك. 

(124)    هل أعجبتك المقالة (112)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي