في نهاية عام 1979 وخلال جلسة انتخابية نقابيةعامة دعوتُ لحضورها في قاعة الإجتماعات الكبرى في كلية الهندسة بجامعة دمشق، حضرها السيد رئيس مجلس الوزراء محمد علي الحلبي ونائبه المرحوم فهمي اليوسفي، وحضرها أكثر من ألف مهندس، أعلنتُ عن مطالب نقابية وطنية لتطوير البلاد وتحقيق الإنماء الوطني وذلك عن طريق ضرورة الإحتفاظ بالمهندسين في البلاد وتمكينهم من خدمة تطوير وبناء الوطن. إلا أن السيد محمد علي الحلبي / غفر الله له، بادر بسذاجة وردِّ فعل غير مدروس، وانبرى إلى القول أمام جميع الحاضرين أن { ما يُطالب به المهندس سعد الله جبري هو خلاف سياسة الدولة "آنئذ" وأنه غير مُناسب، وانها أحلام لا يُمكن تحقيقها }، فاضطررت وقتها إلى الرد عليه في ذات الإجتماع بقسوة، انتقدت خلالها حالات الفساد والأخطاء الفنية التي يرتكبها المسؤولون نتيجة جهلهم بالأمور الفنية.
وضربت أمثلة عن مشاريع كلف كلّ منها مئات الملايين وكانت عرضة لأخطاء فنية واضحة، وتكاليف زائدة. ووصلتُ إلى أن العصر الآن هو العصر التكنولوجي، الذي يتطلب قيادة هندسية للحكومة، وليس العسكر ولا المعلمين - تشنيعا مقصودا في حينه على "الحلبي الذي كان معلم مدرسة، قبل عمله السياسي" وهم من كانوا رؤوساء الوزارات خلال الحركة التصحيحية حتى ذلك اليوم. وطالبت السيد الرئيس بأن يتولى رآسة الحكومة مهندس.
وصلت التفاصيل إلى الرئيس الراحل حافظ الأسد، وكانت نتيجتها قرارين أولاهما عدم التجديد للسيد محمد علي الحلبي في رآسة الوزراء لسوء مشاركته في جلسة شعبية عامة، والثانية تعيين مهندس في رآسة الحكومة. وقد حصل هذا منذ تاريخه ولا زال قائما حتى الآن.
هنا تبرز ثلاث نقط أساسية:
الأولى: هي فورية تبليغ السيد الرئيس بكل ما كان يجري في البلاد، وخاصة عن المسؤولين الحكوميين وغيرهم وهذا يعني ضمناً ولاء أجهزة المخابرات والأمن جميعا للوطن ممثلا في شخص رئيس الجمهورية الشرعي الرئيس حافظ. وحيث كان سلطته فوقهم سلطة غير محدودة، لا يجرؤ أياً منهم في وقتها حتى على رفع رأسه في حضور الرئيس حافظ رحمه الله. وكان هذا سبب وحدة سياسة الدولة، وتركيزها على أهدافها بوضوح أنتج قدرات كبيرة لدولة صغيرة تجاه أعظم وأكبر دول العالم. لقد أدرك الرئيس حافظ مفهوم الهجومية والدفاعية في إدارة البلاد داخليا وخارجياً، فقد كان هجوميا على جميع الآخرين، فاضطر الأخرين إلى أن يكونوا في الموقف الدفاعي، يعني المتلقي والطائع. والنصر دوما للهجومي، والولاء هو من نصيب المدافع بالضرورة.
الثانية: هي الإستجابة الفورية للسيد الرئيس في مطلب منطقي - ولو صدر عن مواطن صغير - ويحقق مصالح وطنية، فاتخذ القرار به فوراً. وهذه ميزة كانت من ميزاته وتُحسب له في إيجابياته.
والثالثة: هي أن التآمر الإسرائيلي والعمالة والفساد، لم تكن لتسمح لهكذا قرار ثوري، يحقق مصالح الوطن العربي السوري من النفاذ وفق أغراضه الأساسية، فأوحت إلى رفعت، بترشيح المشبوه عبد الرؤوف الكسم لمنصب رئيس الوزراء، مكلّفا بالتعاون مع رفعت بتخريب البلاد واقتصادها وشركات القطاع العام، وضرب النقد السوري وإضعافه، وقد حصل هذا جميعه وحتى تم تخفيض قيمة الليرة السورية بنسبة تجاوزت 1000% بقرارات عبد الرؤوف الكسم :{ نسخة مُشوّهة من المهندس الذي تصورته سيكون حلاّ وطالبتُ بان يكون رئيساً للحكومة }.
بتحليل النقطة الثالثةً: نرى أن إسرائيل وموسادها - ليسوا نائمين - وهم بالمرصاد لكل خطوة تتيح تطوير سورية بالذات وتقويتها في جميع أمورها، وبخاصة الإقتصادية والمعيشية التي تُشكّل أقوى عوامل قوة أي دولة. وبالتالي فقد تمكنت من إفراغ قرار الرئيس حافظ بتكليفه مهندساً لرآسة الحكومة، وذلك عن طريق استعمال أخيه رفعت لزرع مهندس بذاته، مُخرِّب ومشبوه في المنصب الذي كان يجب أن يكون لأي مهندس وطني، يعمل على تطوير الوطن. هل هذه الممارسة الإسرائيلية المدعومة من مراكز التسلط والفساد، توقفت أو أنها لا زالت قائمة حتى اليوم؟
بل هي قائمة حتى اليوم، وامتدت من مهمة المهندس إلى الإقتصادي وغيره من اختصاصات الحكومة. ولنأخذ أمثلة عملية، لكي لا نبقى في العموميات، فالمهندس العطري، أختير لأنه أضعف من أن يكون مهندس ورشة، أو رئيس ديوان، وقد أثبت مرارا أنه كان أضعف حتى من نائبه الدردري وبعض الوزراء، وكذلك أضعف من أي مركز قوة يُصدر إليه تعليمات هاتفية مخالفة لمصلحة سورية واقتصادها ومخالفة للقانون وللأخلاق العامة. وأنه كثيرا ما صرح بتصريحات جعلته هزءا وسخرية للجميع، مما لو كانت على عهد الرئيس الراحل حافظ / رحمه الله، لفصله على أولها، وربما حاكمه عليها.
ولنأخذ الدردري والطاقم الإقتصادي من أصحاب الدكتوراة الذين انحرفوا بالسياسة الإقتصادية والنقدية والمالية عن مبادىء الحزب الحاكم، وعن قراره باعتماد منهج السوق الإجتماعي منهجا إقتصاديا للبلاد، وساروا بدلا من ذلك فعلاً في خطوات متعثرة ارتجالية في منحى النظام الرأسمالي الأمريكي، فكانت أولى نتائج أعمالهم خراب شبه شامل في الإنتاجية الوطنية العامة، وانخفاض في نسبة النمو تجاوزت 30% سلباً (هذا خلاف لأكاذيب الدردري بأنها ارتفعت إيجابا بنسبة 5.7%، وأنا أتحدى أيٍّ كان في ذلك)، والقيام بتنفيذ تخفيض آخر في سعر النقد السوري- إضافة لما نفذه رفعت والكسم في الثمانينات - تجاوز حتى الآن نسبة 50% جديدة عن ماكان عام 2003، مما سبب مضاعفة الأسعار، أتبعها الدردري بتصريحه المشبوه بقراره إلغاء الدعم، فضاعف الأسعار مرة أُخرى. ولو فعلها أي وزير اقتصاد على زمن الراحل حافظ / رحمه الله وغفر له، جزاء له عن حزمه وإخلاصه ووحده اتجاهه الوطني، لكان مصير مثل ذلك الوزير الطرد أو السجن، لا شك في هذا ولا ريب، وقد حدث مثل ذلك لأقلِّ من هذا فعلاً.
( معترضة) : ذكرت أعلاه أن وزراء الحكومة الحالية انحرفوا عن مبادىء "الحزب الحاكم"، فأقول أن جميع دول العالم تُقاد بسياسة الحزب الحاكم، وسواء كان وصوله للسلطة بالإنتخاب أو بالدستور النافذ في البلاد، وإلا فما معنى وأي مبرر أن يحكم حزب ما في بلد ما، بمبادىء وأهداف تخالف مبادئه وأهدافه؟
توصلنا الأحداث المذكورة، والتي أُتخم الشعب معاناة منها، إلى النتائج التالية:
1. إنه لا يكفي أن يكون رئيس الحكومة مهندساً لتتماشى قراراته مع تطورات التكنولوجيا العالمية، وتوجيه البلاد في منحى التطوير والبناء والإنتاجية، وإنما يجب أن يكون مهندسا مُخلصا شريفا خبيرا وقويا، وإلا فلا فائدة من لقب بلا أداء وإنتاج. بل إن النتيجة ستكون معاكسة، وهذا ما حصل فعلا، منذ أيام عبد الرؤوف الكسم، وحتى المهندس العطري / قدّس الله سرّه.
2. إنه لا يكفي أن يكون رئيس وأعضاء الفريق الإقتصادي من حملة الدكتوراة، وإنما يجب أن يُصاحب ذلك دراسة لكل منهم: عن ماضيه، والمناصب التي تقلدها، ونهجه وعقيدته السياسية، وأسلوب عمله، ومقدرته على قيادة الآخرين، ونظافة يده من الإثم الأعظم وهو الفساد والولاء لأصحابه. وإذا نظرنا فعلا وصدقا وعدلا في من قادوا البلاد في الحكومة الحالية، فنجد أنهم قادوها إلى مُطلقِ خرابٍ إقتصادي، وتراجعٍ في الإنتاجية الوطنية، وانخفاضٍ مريع في نسب النمو، وغلاءِ أسعار مُريع أوصل الناس إلى اليأس، وبطالةٍ يخجل أي إنسان أن يذكر تفاقمها، ولوجدنا في ذات الوقت أن أغلبهم يخالفون أكثر المتطلبات الأساسية الوطنية المذكورة لمناصبهم، وهذا يعني أنهم زُرعوا زرعا من مشبوهين مُخادعين متصلين بمراكز التسلط والفساد، المتصلين أساساً بقيادات معادية غرضها تخريب سورية، وقد نجحوا في ذلك نجاحا هائلاً.
أظن أن الأحداث والتحليلات المذكورة، تُغني عن اقتراح أي حل، فالحل متضمن في ذاتها.
بكل احترام /
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية