على جميع علّاته، أنا أشهد (و قد كنت شاهداً على كثير ممّا جرى) أنّ أحد السّببين الرئيسيّين الذين دفعا بالإدارة الأميريكيّة للانقلاب على المجلس الوطنيّ السّوريّ هو ما رآه الأميريكيّون أنّه "تعنّت" في موضوع التّفاوض مع الأسد و قد كانت الإدارة الأميريكيّة راغبة بُعيد توقيع إعلان جنيف شهر حزيران عام 2012 بمعارضة تقبل التّفاوض تحت سقف شروط أدنى، و فعلاً جرى ذلك خلال أشهر بسيطة حيث ضغطت نواة "مجموعة أصدقاء سوريّة" التي شكّلتها و تقودها الولايات المتّحدة لخلق الائتلاف و تمّ الأمر حين كنّا في الدّوحة تشرين الثّاني 2012.
أذكر تماماً جلسة الدّفاع التي استمرّت حتّى السّاعة الثّالثة صباحاً تقريباً و التي قدّم فيها الأستاذ رياض سيف مبادرته التي كانت نواة لتشكيل الائتلاف كيف كان الجميع متخوّفاً من أن يكون خلق هيئة جديدة و الانقلاب على الموجود هو لفرض المفاوضات مع الأسد على السّوريين. يومها أجاب الأستاذ سيف الذي أحترمه و أجلّه جدّاً و لا أشكّك للحظة في وطنيته "أعوذ بالله، لن أسمح بأن يجري ذلك طالما فيّ نفس يصعد و يهبط" وأضاف "نحن موعودون إن شكّلنا جسماً بمثّل السّورييّن بشكل أحسن و يضمّ أطيافا أوسع ويكون لصيقاً بالدّاخل أكثر بأن تصلنا الأصول المجمّدة للنظام في العالم- مئات ملايين الدّولارات- و ستساعدنا على إغاثة الشّعب و تسليح الحرّ، كما أنّنا موعودون بأسلحة نوعيّة".
يومها التقيت بالسّفير فورد وبمساعدة وزيرة الخارجيّة لشؤون الشرق الأدنى بيث جونز وبغيرهم ممّن أعرف في وزارة الخارجيّة الأميريكيّة وفعلاً تلك كانت الوعود أي لم يختلق الأستاذ سيف شيئاً.
الجميع يعلم أنّه لم يتحقق من تلك الوعود شيء بل على العكس ازداد الوضع سوءاً.
و ما أشبه اليوم بالأمس! اليوم الائتلاف ليس معه إلّا وعود أيضاً بنوايا حسنة و هو لا يملك أيّة أوراق ضغط أو أيّة قوّة تفاوضيّة. السّياسة الدّوليّة تجرّه إلى جنيف جرّاً تحت شروط سيّئة لا مواتية وسط إرادة الرّئيس أوباما (وليس بالضّرورة رغبة كلّ مسؤول في إدارته) عدم تقويض مصالح روسيا في سوريّة لقاء تعاون روسيا في ملفّات أخرى، و مؤخّرا للتقارب مع إيران، الأمر الذي سيعني اتّفاقاً سيّئا للغاية.
كاتب هذا المقال لا يرفض التّفاوض من حيث المبدأ و ليس عنده مانع في اتّفاق جيّد لحكومة انتقاليّة يخرج به الأسد وزبانيّته من السّلطة وينهي مأساة الشّعب السّوريّ ويحقق تطلّعاتهم وآمالاهم في دولة عدالةٍ وحريّةٍ خاليةٍ من الفساد والظّلم والتّسلّط، ولكنّه على دراية كاملة بالظّروف والجوّ المحيط بالمشاورات ويعلم أنّه من المحال أن يستطيع الائتلاف الآن أن يحصل على صفقة جيّدة تحقّق للشعب ولو أدنى ما خرج لأجله أو بذل الغالي و النّفيس في سبيله. كلّ ما لدى الائتلاف الآن هو وعود سبق و أن ثبت بطلانها و نكوث مطلقيها.
الطّامةّ الأكبر هو أنّ الائتلاف لم يعد يملك حتّى حصريّة تمثيل المعارضة فهو ليس الجهة الوحيدة المدعوّة للمفاوضات بل وفد المعارضة فيه هيئة التّنسيق الوطنيّة- و التي لا تمثّل أحداً في سوريّة اللّهم سوى أنّهم محظيّون عند الروس لأسباب يعلمها الجميع- و من أعضائها الاتحاد الدّيمقراطي الكرديّ (البيادا/الفرع السّوريّ لحزب العمّال الكردستانيّ)، رغم أنّ المجلس الوطنيّ الكرديّ انضمّ مؤخّرا للائتلاف، و رغم أنّ الائتلاف و بقرار من الجمعيّة العموميّة للأمم المتّحدة في 15 ايار 2013 بموافقة 107 دول تحت فصل الانتقال السّياسيّ قُرّر فيه "أنّ الجمعيّة العموميّة ترحّب بإنشاء الائتلاف الوطنيّ لقوى الثّورة والمعارضة في 11 تشرين الثّاني في الدّوحة على أنّه المحاور الحقيقيّ و الضّروري من أجل الانتقال السّياسيّ و تلحظ القبول الدّولي العريض في الاجتماع الوزاريّ الرّابع لمجموعة أصدقاء الشّعب السّوريّ بالائتلاف على أنّه الممثّل الشّرعي للشعب السّوريّ."
يعني أمام وفدٍ موحّدٍ -و إن كان وفداً صوريّاً للنظام- فرق شتّى للمعارضة على طاولة المفاوضات لإضعاف موقف المفاوض السوّري الذي عليه أوّلا أن يتّفق مع هذه الجهات التي بالأصل لا تمثّل الثّورة ولا تحمل مبادئها قبل أن يفاوض النّظام.
موقف مخلخل سيزيد 'ممثّلي الشّعب السّوري' الذين لا يملكون قوّة تفاوضيّة أصلاً ضعفاً على ضعف، ناهيكم عن تكريس فكرة المعارضة المنقسمة المشرذمة التي لا تتّفق على أمر.
في هذه الظّروف يصبح الذّهاب إلى جنيف خطأ استراتيجيّاً فادحاً.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية