دراما انفصالية استعمارية إخوانجية؟!
أخلاقياً، لا يجوز لي أن أفشي أسرار العمل، وبالأخص حينما عملتُ- من سنة 1995إلى 2010- بصفة مراقب نصوص في دائرة اسمها دائرة (التقويم) والرقابة، بمديرية الإنتاج التلفزيوني التابعة للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون.. ولكنني سأقتصر في هذه المقالة، وما بعدها، على ذكر الأشياء غير ذات الخصوصية، ولا سيما التي تتمتع بشيء من الظرف والفكاهة.. ومنها أن المسؤولين في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون السورية أطلقوا عليها اسم دائرة (التقويم) وهم يقصدون (التقييم) طبعاً!.. وهذا الموضوع له حكاية طريفة سأرويها لحضراتكم في الحال..
ففي سنة من السنين، وبينما كانت القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، القائدِ للدولة والمجتمع، تقيم مهرجاناً خطابياً بمناسبة الذكرى الـ (ما بعرف قديش) لانطلاق الحركة التصحيحية المباركة، حصل الأمر التالي:
كان القائد حافظ الأسد (شخصياً) يحضر المهرجان، وكان الخطباءُ- وهم رؤساء الأحزاب المُعَارِضَة أو مندوبوهم!-.. يتقدمون من المنصة، وكل واحد منهم (يستلُّ) ورقة أكبر من الحصيرة التسعاوية ذات السجف، ويفردها، ويشرع بقراءة المدائح المطولة لهذا القائد التاريخي، وكانوا، جميعاً (باستثناء صفوان قدسي المنافق المُفَوَّه) يرتكبون من الأخطاء اللغوية (الإملائية والنحوية والبلاغية) ما يشيبُ لهوله الولدان! وكان واحدُهم، حينما ينتبه للخطأ الذي اقترفه، يرتبك، ويتظاهر بأنه متماسك، ويقول (عفواً.. لقد أخطأت!.. ويصحح الخطأ بخطأ أكبر وأدق رقبة!).. والكل يضحكون حينما يرون أن القائد (عَزَّ نَصْرُهُ) قد ضحك!!.. وربما كان القائد التاريخي هو الوحيد الذي انتبه إلى التناقض الكبير المُعَبَّر عنه في هذا المهرجان، وهو أن الخطباء، كلهم، قوميون، اشتراكيون، تقدميون (تَكَلُّطيون) يَدْعُون إلى الاستماتة في سبيل الحفاظ على لغة الأجداد العرب، بوصفها من العوامل الرئيسية للوحدة العربية! بينما هم- في الواقع- يتحدثون مثل مواطنينا السوريين الأعزاء المنحدرين من أصل أرمني، ومنهم ذانك الرجلان اللذان كانا جالسين عند باب ورشتهما الميكانيكية يوم 14/2/2005، فقال الأول:
عرفت شو صار؟ الحريري انقتلت!
فسأله الثاني: مين حريري؟ بهية؟!
فرد الأول: لا مو بهية. أختها!
يومها، يوم المهرجان الخطابي، لم نسمع، نحن المواطنين السوريين أي تعليق من القائد، ولكننا شاهدنا، بعد أيام قليلة، كهلاً متعصباً للغة العربية يدعى يوسف الصيداوي، يطل علينا من الشاشة، وقد خصصت له القناةُ الرئيسية برنامجاً يومياً لتصحيح اللغة، وسمعنا عشاق القائد وهم يشفطون أرياقهم من شدة التأثر، ويقولون باستمتاع:
يا أخي هذا قائد عظيم أكثر من الحد المحمول!.. قائد لا تفوته فايتة، (ولا كعكة بايتة!).. فحتى اللغة العربية لم تسلم من إنجازاته وعطاءاته!
لم يكن القائد يتدخل في شؤون التلفزيون كثيراً، ولا سيما بعدما أقنعه وزير الإعلام أحمد اسكندر أحمد بضرورة عَلْوَنة الإعلام (المقصود، بالطبع، تسليم المفاصل الأساسية في الإعلام لعلويين موالين للنظام، وليس لعلويين شرفاء) وتركهم يتصرفون في شؤونه على هواهم.. ولكنه تدخل هذه المرة، وأمر بما سمي يومئذ (تمكين اللغة العربية).. وتدخل مرة ثانية حينما أمر بإعطاء أكرم شريم سلفة مالية لكتابة جزء ثان من مسلسل أيام شامية الذي يمجد القائد الفرد، العكيد، المستبد، العادل.
كانت ترد إلى دائرة النصوص- التي أسموها دائرة (التقويم) بعدما لَبَخَنا يوسف الصيداوي بحلقة كاملة أثبت فيها أن كلمة (التقييم) عبارة عن خطأ شائع- في بعض الأحيان، نصوص تتحدث عن مقارعة الاستعمار الفرنسي، متأثرة بمسلسل أسعد الوراق لصدقي اسماعيل، ونصوص تتحدث عن ميلاد حزب البعث العربي الاشتراكي (نسجاً على منوال فيلم "الميلاد" الذي كتبه المرحوم رياض سفلو وأخرجه محمد فردوس الأتاسي)، وأخرى تتحدث عن حرب تشرين التحريرية، و(مئة حبل مشنقة ولا يقولوا عني خاين يا خديجة).. وهي كلها أعمال خالية من الدراما لأنك لا تستطيع تصوير وجهة النظر الأخرى، أو أن تعطيها مشروعية. يعني، هل يعقل أن تكتب عملاً درامياً يؤيد الحالة الانفصالية؟! أو نصاً يخرج بنتيجة أن الاستعمار الفرنسي جيد؟.. أو أن حزب البعث سيء؟ وأن الإخوان المسلمين أو الشيوعيين أحسن من البعث وأنفع؟ أو أن حرب تشرين كانت لعبة متفق عليها سراً بين الدول الكبرى وحافظ الأسد؟..
يتبع
خطيب بدلة - زمان الوصل - زاوية: دراما الثورة السورية
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية