جماعة "ألم نقل لكم"

في مؤسسات سياسية عدة، كثيرةٌ هي المواقف السياسية "الكبرى" التي تعود في جذورها إلى خيارات نفسية لأفراد يقفون على رأس هذه المؤسسات التي تصطبغ بهذا القدر أو ذاك بالمزاج الشخصي، فإذا كان من يقف على رأس مؤسسة ما "جباناً" فإن الكثير من المواقف السياسية لمؤسسته تتصف بهذه الصفة أيضاً. وكذلك، كثير من الصفات الشخصية الحياتية للأفراد تعكس نفسها على مواقفهم وتحليلاتهم السياسية الشخصية، فإذا كان هذا المرء مهووساً بعقدة "النخبة" ستراه دائماً يحاول إثبات أنه كان على حق وأن الواقع والتاريخ يسيران كما يفكر ويرسم. 

هناك بالتأكيد لدى أصحاب الفكر قدرة نسبية على قراءة الواقع والمستقبل، وهنا تكمن أهميتهم وضرورتهم، لكن هذا لا يعني أن الواقع والتاريخ يطابقان أفكارهم. هم إحدى قوى الواقع المؤثرة، وتزداد فعاليتهم استناداً لقدراتهم الفكرية السياسية وطرائق توجيه خطابهم للبشر والوسائل التي يعتمدونها من جهة، ومدى ملاءمة الواقع العياني للتفاعل مع أفكارهم.

هناك في سورية قوى سياسية وأفراد و"مثقفون" و"متثاقفون" يمكن جمعهم في جماعة واحدة تحت اسم: جماعة "ألم نقل لكم". وقد عبرت هذه الجماعة عن نفسها في محطات كثيرة من بداية الثورة وحتى اليوم، لكن بالطبع لا ننفي التباين في درجة التعبير بين أفرادها وقواها، وحتى الاختلاف بالمنطلقات والأهداف أيضاً. فجزء من جماعة "ألم نقل لكم"  كان ضد الثورة منذ البداية، ليس لأنه مع النظام، بل لأنه – كما يقول – يعرف قدرات النظام على القتل والتخريب. وهناك جزء تخوف من خروج الناس من المساجد، لأن ذلك قد يؤدي إلى ظهور الحركات المتطرفة على السطح، وهناك جزء تخوف من تحول الثورة السلمية إلى ثورة معسكَرة أو إلى حرب طائفية، وهناك جزء تضامن مع الثورة شريطة أن تثمر نظاماً ديمقراطياً يشعر المواطن السوري في ظله أنه في سويسرا، وإلا فإن هذه الثورة ما هي إلا فوضى وفتنة وخراب.

كل هذه التخوفات من جماعة "ألم نقل لكم" هي تخوفات صحيحة ومشروعة، لكنها كانت بديهية ومعروفة من قبل الجميع. فقد أكدت شعارات المتظاهرين من الأيام الأولى، وظلت كذلك خلال ستة أشهر على الأقل، على نبذ الطائفية وعلى سلمية الثورة. بمعنى أن النقاط التي ترتكز إليها جماعة "ألم نقل لكم" لم تكن بحاجة إلى صعوبة في الفهم والإدراك، أي لا تحتاج إلى شعور التباهي بالمعرفة وقراءة الواقع من جهة، وإلى كل هذا القدر من الخطاب "الاحتقاري" للثورة وأهلها الذي يظهر من بعض مكوناتها من جهة ثانية. هذه الجماعة تتباهى غالباً في معرفتها للبديهيات، على الرغم من أنه لو سألنا طفلاً سورياً في الأيام الأولى للثورة لأمكنه أن يتحدث لساعات عن معرفته بالنظام والمستويات التي يمكن أن يصل إليها، وعن مخاطر الانجرار الطائفي والتسليح وعسكرة الثورة. 

النتائج الواقعية هي حصيلة موازين قوى في المآل، ولا يمكن للشعارات النبيلة أن تؤدي الغرض في حال كانت معظم القوى الفاعلة تسير في اتجاه مغاير لها. هناك نظام مستبد سخر كل إمكانياته في اتجاه ضرب الثورة والإساءة لصورتها، إضافة لدول إقليمية عديدة، وإرادات لدول عظمى، وكان أضعف الأدوار من جانب الجزء الطائفي في المعارضة الذي تبلور تدريجياً مع تغيرات الواقع، فيما البشر المحاصرون بكل ذلك والمعرضون  للقتل اليومي لا يملكون الأدوات اللازمة لفعل أي شيء مضاد يقف في وجه هذه الريح العاتية. أي هناك إرادات عدة اجتمعت من أجل هذا التحول بما جعله حتمياً وليس خياراً، وهذا ليس تبريراً للتحول بل تفسيرٌ له، ولو كان الأمر خاضعاً للرغبة والأمنيات لما وجدت سورياً مع التسليح والطائفية، بل أكثر من ذلك أن أغلبية السوريين تمنوا أن يبادر النظام بتغيير حقيقي في البدايات.

لقد كرهت هذه الجماعة الناس لأنهم لم يسيروا استناداً للوصفات "السحرية" التي أطلقوها، ولذلك يسيطر على بعض مكوناتها حس "الشماتة" في أغلب المحطات إلى جانب خطاب سياسي عصابي شتّام، وربما كان الدافع المركزي لذلك هو الشعور بهامشيتهم. وهم يعزون هذه الهامشية لجهل الناس وسيطرة العنف، لكنهم لا يفكرون بأن الجزء الأكبر من هذه الهامشية سببه خطابهم وآلياتهم، تماماً كالطبيب الذي يعزو سبب فشله في معالجة مريضه إلى المريض ذاته، ولا يفكر لوهلة في تغيير مقاربته للمرض وتغيير أدواته وعلاجاته. 

تغيب هذه الجماعة عن الساحة حتى لنشعر أنها انقرضت، ولا تظهر وتنتعش إلا في حالة انتكاس الناس ومرور ثورتهم بلحظات ضعف أو ظهور أخطاء واضحة للعلن، وهذا نمط من الفعل السلبي في السياسة. نستطيع القول أن الحالة الوحيدة التي يمكن أن يكون فيها لمكونات هذه الجماعة وجود أو دور سياسي حقيقي هي في فشل الثورة، لذلك وصل الأمر بالبعض للوقوف موضوعياً إلى جانب النظام ضد الثورة وأهلها، وصرنا نشعر أنهم يتمنون ذلك من أجل حصولهم على شعور النشوة والرضى عن الذات، ومن أجل أن يعترف لهم الآخرون بأنهم كانوا جهابذة عصرهم.

المواقف السياسية لبعض مكونات هذه الجماعة لا تنم عن أصالة في الفكر أو حكمة في السياسة بقدر ما تنم أحياناً عن الجبن، وهناك جبن شخصي انعكس على قوى سياسية، على الرغم من أنه ليس معجزة بناء موقف سياسي صلب وواضح من جهة، وعقلاني من جهة ثانية. وفي أحيان أخرى تعبر تلك المواقف وطريقة تصديرها عن "الانتهازية" التي يمكن تكثيفها بالعقل الانتخابي المحض الذي يذهب نحو الحصول على أصوات موالي النظام طالما ليس بالإمكان الحصول على رضى أهل الثورة، وهذا نمط آخر من الشعبوية المقابلة لشعبوية المعارضة الصامتة عن أخطاء الثورة. هذه الشعبوية المضادة مخطئة من حيث عدم معرفتهم أن النظام ومواليه لا يحبون ولا يعشقون إلا "الطراطير"، وما تعبيراتهم المادحة لبعض شخصيات جماعة "ألم نقل لكم" إلا في سياق ضرب أي توافق محتمل بين المعارضين وليس احتراماً لها.

السياسة هي العمل في وحل الواقع، وهذا الواقع لا يسير وفقاً لرغباتنا وآمالنا وشعاراتنا، وكي تزيد فرص تأثيرنا فيه علينا أن نكون جزءاً حاضراً فيه، لا مجموعة منفصلة عن الواقع وبشره، وهذا وحده ما يمكن أن يزيد من فرص تأثيرنا إيجابياً فيه. كما لا يكفي إطلاق الشعارات النبيلة، بل لا بدّ من المثابرة واجتراح الآليات المناسبة في كل لحظة سياسية، كما ينبغي من خلال خطابنا أن يشعر الناس أننا نفهم معاناتهم ونشعر بهم ونحترم تضحياتهم حتى لو كنا لا نتفق مع آرائهم وبعض ممارساتهم.

نقد تفكير الناس وممارساتهم أمر مهم، لكن بالاستناد إلى روح التواضع والتضامن معهم ومع آلامهم وآمالهم. فخطاب "الشماتة" و"الاستعلاء"، والخطاب الذي يبدأ بـ "لقد حذرنا.." أو "قلنا لكم منذ عام.." أو "أثبتت الأحداث صوابية توجهاتنا..."، والخطاب الذي يجتر الحديث في البديهيات من دون تناول الآليات والوسائل والمشاركة في تخفيف المخاطر، لن يتفاعل معه أحد، وواهم كل من يعتقد أن الناس سيأتون في لحظة ما إلى جماعة "ألم نقل لكم"، وأياً تكن المسارات المحتملة، طالبين الصفح والغفران، فلو أراد الناس الاستماع لهذه الجماعة من البداية لما كان هناك ثورة أصلاً.

(110)    هل أعجبتك المقالة (107)

لينا ابازيد

2013-07-28

الجملة الاخيرة من المقال قد عبرت عن الواقع كما ااختصرت كل ما رمى اليه الكاتب و قد اصاب...


abdolkareem

2013-07-31

هيثم مناع مثالا.


ابراهيم محمد سعود

2013-12-25

الانهزاميون يعتلون منابر واهمة بخطب ديماغوجية ،يحدث ذلك في ظل غياب القوى الفكرية المؤسسة في حال سباتها ....


التعليقات (3)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي