أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

حر وحر وحر.. حوار مع الروائي والشاعر د.أيمن العتوم

لم يكن السجن ترفا.. لم يكن قيدا...كان روايات وديوان شعر..
رواية "يا صاحبي السجن" ، ديوان "نبوءات الجائعين"2012، رواية "يسمعون حسيسها"..كتبت داخل السجن...تضاف إلى أعمال أخرى وتتميز عنها بانعتاقها وإن كانت حروفها الأولى خطت على جدران سجن...
" فاتحة البدء: مساء الخير! أوّل مرّة أعرفك على هذا النّحو، أتُصدّق؟!! إنّها المرّة الأولى الّتي أشعر فيها كم أنا أحبّك، وكم أنتَ مخبوءٌ فِيّ. أيّها الطّائر الّذي يستيقظ من جديد: ها أنذا أهيّئ لك أعماقي لتتغلغل فيها.."
متى شعرت بذلك الضباب يقتحم على روحك زواياها فيملؤها ويتغلغل فيها...ويهز الرؤى في جفنيها لتحلق للمرة الاولى؟؟....

قلتُ ذات مرّة: الشّعرُ لا يأتي إليّ آخرا... أنا وُلدتُ شاعرا... وقالوا: (الشّاعر يولد ولا يُصنَع)... نعم، اتّقدت جذوة النّار المقدّسة في أعماقي، نار الإبداع وأنا أتهجّى حروف الأبجديّة... من الشّعر نفسه بينتُ عوالمي حينَ شكّل بحروفه وإيقاعاته وأنغامه عالَمًا سحريًّا في ذهني آنذاك، ذهنِ طفلٍ يبدأ رحلته مع هذا الصّديق الجميل.

في روايتك "يا صاحبي السجن" 2012 تساءل ذاك القابع في زنزانة رطبة باردة.." من أنا؟ سألت القابع في أعماقي، وهتفت: أنا معتقل سياسيّ، في قسم المخابرات،
في زنزانة انفرادية، في منتصف اليل،
على رقعة وطني الحبيب..
لم يعجبني هذا التعريف، فأعدته على النحو الآتي:
أنا شاعر يحبّ وطنه وهذا الحبّ أوصله إلى هنا!!"
لو ناجاك مرة أخرى فبماذا تجيب؟ أظن ان الجواب في ظلال اليوم يحتاج بوحا آخر يجعله يتخفف من بعض ما يثقله....

سأجيبه بأبياتٍ من الشّعر، أقول فيها:
أنا يا بلادي كلّما أبحرتُ في

سُفُنِ المحبّةِ، عَقَّنِي رُبّانِي

وَلَقَدْ يَمُوتُ الحزنُ عِنْدَ مَمَاتِنا

وَيَجِيْءُ بعدَ الموتِ حزنٌ ثانِ

أنفقتُ عُمْرِي في هَوَاكِ وليتَ لي

عُمُرَاً جديداً في هواكِ يُعاني

أخفيتُ وجهي عنكِ حتّى لا تَرَيْ

وجهاً يزيد الهمّ في الوجدانِ

ولمن سأشكو؟ والذين شكوتُهم

حزني، أضافوه إلى أحزاني

ما جَرَّبوا عِشقي ولو هُمْ جَرَّبُوا

ذابُوا وَحَنُّوا في الهَوَى تَحْنَاني




"ما الذي صنعه حتّى صرتُ إلى ما صرت إليه؟! كم أودّ لو استطعت الإجابة اليوم، ولكنني أشعر بالعجز أمام هذا العملاق !!... كان يكبر في تضحياته مليون سنة، وكنت أصغر أمامها مليون قرن!!.." ...
بعد مرور عام على هذه الحيرة، وأعوام على اللوبان فيها، هل انعتق الجواب من حيرته؟؟ وهل سألته لماذا جنى عليك جناية والد ابي العلاء المعري...

أبي ظلّ منارتي الهادية إلى اليوم، في الظّلمات كان مشعلاً لا ينطفئ، وفي لُجج الخوف كان مركبًا من الأمان لا يغرق، وفي نهايات الطّريق كان رمحًا من الحقّ لا ينكسر... أبي ظلّ مُعلّمي ومُلهمي طوال كلّ هذه السّنين، أمام تضحياته أبدو ورقةً تتقاذفها الرّياح لا تسكن إلاّ بين يديه.

"آه ما أصعب أن يكون الانسان حراً ما أقسى تبعات ذلك. إنّ الحرية صرخة ( لا ) في وجه طوفان ( نعم ) حين تكون ( نعم ) غناء القطيع الذي لا يعرف غير هز الرؤوس والأذناب ..
الحرية .. الدين .. الإيمان .. الأخلاق تَعِب الناس وهم يحاولون إيجاد تعريفات لها غير أني لم أجد للحرية تعريفاً من بين هذه المفاهيم أشد وضوحاً من الحالة التي أعيشها الآن في الزنزانة"
كيف ترى أصداء هذه الصرخة عربيا ولاسيما في سورية التي تعاني مع حريتها مخاضا عسيرا...؟؟
نعم، لقد قال الثّوّار هذه الكلمة في سوريّة، وإنّها إن قيلت في وجه الطّغاة والظّالمين، وصدح بها القلب مؤمنًا بتَبِعاتها فإنّها كفيلة بأن تقتلع عروش الجاثمين على صدور الشّعب، وتُطيح بأعتى المُجرمين ولو بعد حين، وقد قلتُ في هذه الثّورة المباركة:
وَأَبُوكَ ظَنَّ الشَّعْبَ مَزْ

رَعَةً يُسَمِّنُها لِغَدْ

لِتَهُزَّ رَأسًا ... لا لِتَصْرُخَ: لا

وَتُرْعِبَ مَنْ فَسَدْ

وَتَظَلَّ راضِخَةً تَذُوقُ

الوَيْلَ ... تَرْسُفُ فِي الصَّفَدْ

لا ... لا ... ولا ... يا ألفَ لا

تَأْتِيكَ عَصْفًا لا يُرَدْ

تَأْتِيكَ طُوفانًا فَلا

يُغْنِيكَ جَيْشٌ أَوْ عَدَدْ




في روايتك الأخيرة "يسمعون حسيسها" كانت السجون السورية تجربة حقيقية معيشة.... في حقبة من أكثر حقب السوريين تخبطا (1980ـ 1997) ولاسيما في قضية الاخوان المسلمين ...
لماذا اخترت هذه المرحلة، في هذا الوقت بالذات من حياة السوريين

لأنّها الحقبة الأكثر ظلمًا، وإن لم تكن الوحيدة، ولأنّها شكّلتْ مادّة خصبة لإطلاع النّاس على ما كان يفعله النّظام بشعبه، النّظام الّذي كان يتستّر خلف عناوين كبيرة يُدغدغ بها عواطف المخدوعين، ويضحك عليهم... ثمّ لأنّها الحقبة الّتي ارتقى فيها عدد كبيرٌ من الشّهداء، هؤلاء الشّهداء الّذين كان يُمكن أن يشكّلوا نهضة سورية الكبرى فيما لو لم يتمّ إعدامهم، أو الزّجّ بهم في الغياب المُطلق، فلقد كانوا أطبّاء ومهندسين ومحامين وعلماء وأساتذة جامعات... وبطل الرّواية أحد هؤلاء فقد كان طبيبًا.

في محيط سجن تدمر.. كتبت واصفا: "لقد وضعوا ألغاماً وقنابل حول أسوار السّجن , وزرعوا آلآلاف من تلك القنابل هناك!!
- ولماذا يفعلون ذلك؟!
- اذا داهمهم خطرٌ من عدوّ ما ... يقولون: (عدوّ محتَمَل), فإنَّهم ينسحبون من السّجن , وبكبسة زرّ واحدة يفجّرونه بالكامل.
- يا لطيف .. !! وكمْ عدد المحابيس في هذه الأيّام؟!
- يقرب من عشرين ألفاً.
- أمعقول أنَّهم يقتلون هذا العدد بروح باردة؟!!
- تسألني وأنت أخبر بالجواب؟!!!!!"
عندما قرأت هذه السطور انتابتني حالة من الضحك الهستيري... قلت في سري ما أعلمه بحال السجون السورية، وطريقة التفكير فيها... لاسيما هذا العدو المحتمل....أنت خبير بالجواب والسؤال... وذاك مكمن الصدق الفني الواقعي في الرواية... فكيف حصلت على هذه الخبرة.. وكيف بدأت قصتك مع السجون السورية؟؟

بدأتْ قصّتي مع الرّواية، وبالتّالي مع السّجون السّوريّة، حين قرأتُ كتابًا اسمه: (بالخلاص يا شباب) للسّجين السّابق ياسين الحاجّ صالح، وقد قال في أكثر من موضع فيه: إنّ العذاب الّذي تعرّض له الإسلاميّون يفوق العذاب الّذي تعرّض له الشّيوعيّون، ومع أنّ الشّيوعيّين قد كتبوا تجربتهم في أكثر من كتاب داخل هذه السّجون إلاّ أنّ الإسلاميين لم يفعلوا... وكأنّه ألمح إلى أنّهم لن يفعلوا لأنّهم لا يملكون قلمًا قادرًا على نقل مستوى معاناتهم.... شكّلت هذه المقولة استفزازًا إيجابيًّا لديّ، فبحثتُ في الأردنّ عن سجين تدمريّ سابق، واهتديتُ إليه بمساعدة بعض الأصدقاء، واستطعت بفضل الله أن أسجّل شهادته التّاريخيّة عبر هذه الرّواية، الّتي آمل أن تكون قد سدّت الثغرة من هذا الباب.


"هل هذه دمشق التي تدور فيها الحرب الخفيّة من حارة الى حارَة , ومن زقاق الى آخر؟! هل هذه دمشق التي هيّأ صلاح الدّين جامعها الأمويّ للنَصر ذات تاريخ أبيَضْ؟! هل هذه دمشق التي تتظاهر أنَّها تعمّ بالهدوء من فوقنا , ونحن من تحتها نذوق أهوالاً من التّعذيب والتّقتيل في سراديب ودهاليز لا يعرف أحدٌ مبتداها ولا مُنتهاها؟! من يملك خارطة لهذه السراديب فيأتي ليشهد على وحشيّة هذه الأجهزة التي تُمعنْ في تمزيق أجسادنا بكلاليب من حديد , وتشريح لحومنا بسكاكين نار؟! "
أعيد على مسمعيك السؤال ذاته... هل هذه دمشق؟؟

دمشق، للفاتحين... ليست للّذين أذاقوها الويلات، وهدموا في نصف قرنٍ أربعة عشر قرنًا، بما فعلوه من تنكيل بالأجساد وتكميمٍ للأفواه... دمشق هي الّتي خاطبْتُها، وخاطبتُ سورية من خلالها قائلاً:

سُوريَّةَ المَجْدِ يا أُمّاهُ لا تَهِني

ولا تُرِي لِقَطِيْعِ الحُكْمِ دامِعَها

قِفِي (مُعاوِيَةً) يَبْنِي بِها أَلَقًا

حَضارَةَ العِزِّ يَسْتَجْلِي بدائِعَها

وصافِحِي (خالِدًا) والسَّيْفُ في يَدِهِ

يَهْوِي عَلى رأسِ مَنْ باعُوا مَرابِعَها

وَرَكِّزِي (لِصلاحِ الدِّينِ) رايَتَهُ

وَهَيِّئِي لِخُيُولِ النَّصْرِ جامِعَها



في موضع آخر من روايتك "يسمعون حسيسها" تقول: "في السّجن ما من فكرةٍ مستحيلةٍ ، وما من فكرة لم تخطر على بال؛ السجن منجم الأفكار المُذهل؛ نحن نساوي أفكارنا.نحن قلب الحريّة , ولا توجَدْ قوّة في الأرض يُمكن أن تُصادرها.. قَد تُصادر الجسد , لكنَّ انحباس الجسد ليس شكلاً من أشكال العبوديّة.
ماذا أردت أن تقول لمعتقلي سورية... والقابعين الاحرار في ظلماتها وقيد المستقبل الزاهر في أكفهم...؟ وماذا تريد أن تقول لهم الآن...
هل صورة الحرية باتت اليوم في عرفك ازاء حال السوريين مختلفة...؟؟

معتقلو الثورة اليوم يُعانون ربّما مثلما كان يُعاني معتقلو سجن تدمر، اختلفت الأيّام والسّنون وما اختلفت الأحوال والأقدار... ماذا يُمكن أن يصنع الإنسان لأولئك الّذين ضحّوا بكلّ شيء من أجل الحرّيّة، أولئك الّذين حملوا أرواحهم على أكفّهم وساروا بها وسط اللّهيب لا يبالون بشيء، ولا يطمحون إلاّ إلى الفجر... نحن نحاول أن نكون معهم... ندعو الله لهم... ننقل رسالتهم إلى العالَم... نحكي قصص الرّاحلين منهم لمن تبقّى لعلّ ذلك يُوقظ جذوة الانتقام والثّأر في النّفوس.. وفي النّهاية تصنع رصاصة واحدة ما لا تصنعه آلاف الكلمات!!

يقول الناقد خليل محمود الزيود: "الرواية لم تكن تعنى بأن تُحصّلَ على معرفة بأن هنالك تعذيب في تدمر، الرواية قدمت نفسها على شكل بوصلة يهتدي بها الناس الى أن جهنم من الممكن أن تختصر في بضع كيلومترات، الرواية عزفت على وتر الموت الذي كان على امتداد فصول الرواية أمنية، بل غاية الغايات لكل مَن ضمته تدمر.. الآية القرآنية "لا يسمعون حسيسها"، لكن عُنونت الرواية بـ"يسمعون حسيسها"؛ لأن الجنة فيها من نعم الله التي أنعم بها على أهلها أنهم لا يسمعون حسيس النار، ولكن في تدمر كان أهلها يسمعون حسيسها مع كلّ وقفة لعقرب الساعات معلناً أنها الثامنة صباحاً.. كان أهل تدمر يستشعرون وجه "خازن جهنم" كلما لاح حارس الشرّاقة.. كانت الكرامة تعلن الحداد كلما دوّت فيروز "عالطاحونة شفتك عالطاحونة".
يرى الناقد انك لم تختر هذه الجغرافية لذاتها، إنما لتصور الحجيم بإهاب الجنة، فما رأيك...وهل ثمة حجيم آخر دار بخاطرك غير حجيم سجن تدمر...؟؟ لو شئت استبداله فماذا تختار؟؟؟

أظنّ أنّ جحيم سجن تدمر لا يوازيه في العصر الحديث أيّ جحيمٍ لأيّ سجنٍ آخر؛ لقد اطّلعتُ على تجارب سجناء، وشهادات معتقلين سابقين في كلّ أنحاء الوطن العربيّ ولم أجد أفظع مِمّا كان يحدث في سجن تدمر... سجن تدمر علامة فارقة في نقل الجحيم أو بعضه من الآخرة إلى الدّنيا... لقد كان جهنّم حقيقيّة، وما كان يحدث فيه من العذابات لا يُمكن أن يُقارن بما كان يحدث في سجن (ليمان طرة) في مصر، أو (تزمامارت) في المغرب، أو غيرهما من السّجون القاتلة الّتي أنشأتها أنظمة مذعورة، وحكّام مرعوبون...
سجن تدمر شهادةٌ حيّة على أنّ الإنسان يُمكن أن يتحوّل إلى شيطان في ثياب البشر، ويصبّ أتونًا من العذاب لا تحتمله حتّى الحجارة... لا يوجد بقعة في الأرض نالَ أصحابُها من العذاب ما ناله قاطِنو هذه المقبرة الفظيعة... ولا يُمكن أن نستبدل بها بقعة أخرى، هي وحدها تدلّ على نفسها، ولا يُشبهها سواها!!

هل مازال الأدب قادرًا على هز مضاجع الحكام، وماذا ترى في منع رواياتك ومؤلفاتك من النشر والتداول؟؟؟

نعم، هو قادرٌ على ذلك، والأدلّة من التّاريخ على ذلك كثيرة، أكثر من أن تُحصر... ولعلّ في منع رواياتي ودواويني فترةً من الزّمن دليلاً أيضًا على تأثير الكلمة الصّادقة المُقاتلة... دور الكلمة المُقاتلة يأتي في باب توعية النّاس، ثمّ تحفيزهم، ثمّ السّير بهم ومعهم إلى حيثُ الحرّيّة..

كل موت سابق في ليل دامس، لا بد له من حياة آتية من صبح مشرق".
أين ترى لجة الفجر وكيف تراها بعد هذه الدماء لنساء سورية وأطفالها وشيوخها...؟

الفجر قادمٌ... لا بُدّ أنّه قادم... ولكنّ أشدّ ساعات الظّلام كما يقولون هي الّتي تسبق الفجر، هذا يعني أنّه لا بدّ من المعاناة، ولا بدّ من التّضحيات الّتي تُقدّم قرابين من أجل الغد القادم في سوريّة الحبيبة بإذن الله... وكلّ ليلٍ لا بدّ له من صباح، وعلى مرّ العصور وكرّ الدّهور لم ياتِ ليلٌ بعدَ ليل...فلا ليلان يتعاقبان؛ (ويسألونك متى هو قل عسى أن يكون قريبًا)، (إنّ موعدهم الصّبح أليس الصّبح بقريب)؟! بلى.

من وحي هذه الجلسة ماذا تقول من هذا المنبر لأخوة الدم في سورية.. وشهدائها ومعتقليها....
ماذا تقول لهم، وقد تأخر نصرهم على الرغم من فيض الدم والدموع ...؟؟

أقول: اصبروا، ولن تضيع تضحياتكم سُدى... اصبروا فمن الشّوكة إلى الدّم لن يضيع هدرًا ما بذلتموه من تضحيات لا يقدر عليها إلاّ الّذين لا يرقبون إلاّ طلوع الفجر، ولا يتطلّعون إلاّ إلى القمم الشّمّاء الّتي تنقلهم إلى الحياة الفُضلى والعيشة الكريمة.

أخيرا.... هل يسمعون حسيسها..؟؟؟
نعم... سمعوا وما زالوا يسمعون... لهم الله... ولهم الصّباح... ولهم طلوع الشّمس حين تُشرق الأرض هناك بنور ربّها.

سماح حكواتي
(195)    هل أعجبتك المقالة (215)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي