الثورة على نهج الخامس من حزيران

منذ 46 عاماً، ونحن نتجرجر في أوحال هزيمة حزيران 1967 التي لم تكن مجرد انكسار عسكري، بل زلزلة كبرى ممزوجة بالعار، وكشف صارخ بالحساب لإنجازات "الأنظمة التقدمية" في المجالات كافة. واليوم يظهر بوضوح أن تلك الهزيمة أمام المشروع الإسرائيلي ما زالت تتعمق وتتكرس بفعل تلك الأنظمة التي انحدرت إلى أسفل سافلين، وانكشف جوهرها عن بنية مغلقة ومتخلفة وبربرية، حتى بتنا بفضلها لا نشكِّل أي خطر أو تهديد في وجه إسرائيل.

هذه الهزيمة المزمنة والمستمرة أمام إسرائيل هي نتيجة طبيعية لأنظمة مزمنة هيأت باستمرار مناخاً ملائماً لولادة هزائم جديدة. فقد شكَّلت أنظمة الاستبداد العفنة، وما تزال، الأرضية المولِّدة لكل الهزائم عبر قهرها لشعوبها ونهب ثرواتهم وإنتاج الخراب في المستويات كافة. إن من يهزم شعبه غير معني بالتأكيد بهزيمة الأعداء، إذ لطالما كان الطغاة خير من يعبدون الطريق أمام المحتلين والغزاة. ولعل الأسوأ من هزيمة حزيران كان الوعي الزائف والمضلِّل للأنظمة الحاكمة والحركات "التقدمية"، خاصة الحركات القومية والشيوعية، الذي أنتج الهزيمة، وظل ينتج المهازل والكوارث ما بعد الهزيمة وحتى اليوم، وسار بمجتمعاتنا ودولنا إلى الدرك الأسفل. إنه نهج الخامس من حزيران، نهج العار والهزيمة المجلجلة. 

فالوعي القومي التقليدي (البعث على الأخص) ذهب نحو اعتبار الهزيمة مجرد أخطاء عابرة يمكن تجاوزها، فيما اكتفت الحركة الشيوعية العربية بنسختها السوفياتية بإدانة الإمبريالية والصهيونية والمؤامرة الدولية ضد العرب. كما انتشرت في ذلك الوقت شعارات غوغائية وقحة، ما تزال مستمرة إلى اليوم، تقول إن عدوان حزيران لم ينجح لأنه فشل في إسقاط "الأنظمة التقدمية". ولم تذهب الكتلة الأكبر من "النخبة" نحو نقد الذات، على الرغم من أن الهزيمة العسكرية لم تكن أكثر من الشكل العياني لهزيمة تلك الأيديولوجيات الدوغمائية والمتخلفة.

هذه الأيديولوجيات "اليسراوية" المهزومة في الخامس من حزيران سيطرت على الفضاء السياسي ما بعد الهزيمة، ونشرت عاهاتها وأمراضها في مستويي الدولة والمجتمع. فقامت، بحكم الأوهام والرؤى والتصورات التي استبدَّت بها طويلاً، بالتقليل من حجم مشاكلنا وبلايانا، ومن العمل المطلوب لمواجهتها، وعبرت عن نزعة متوترة وعصابية في صفوف "التقدميين" بطرحها تحرير فلسطين وإسقاط الهيمنة الإمبريالية كأهداف مباشرة وآنية. مع هذه النزعة بلغ الهبل الثوري (أو الجرب الثوري بحسب عبارة لينين) حالته القصوى، درجة الشيزوفرينيا (الفصام المرضي)، حيث حول الوهم إلى واقع، ومسخ الواقع إلى وهم. 

بعد الهزيمة رفعت هذه القوى شعارات مضادة لشعار "إزالة آثار العدوان" الواقعي والممكن آنذاك، كنوع من أنواع المزاودة ليس أكثر، واختزلت أشكال النضال ضد العدو إلى شكل وحيد هو "الكفاح المسلح" ثم "حرب التحرير الشعبية"، ولم تتوجه نحو إعادة النظر بأفكارها وسلوكياتها المنتجة للهزائم. وبالطبع انتهت هذه الشعارات فيما بعد إلى "المقاومات المذهبية" المنتجة للحروب الأهلية، والتي تقف حجر عثرة في وجه بناء الدولة الوطنية، ولا تنتعش إلا في بيئة الفوضى والسلاح والتهديد والوعيد، في صورة تعبر عن درجة الانحطاط الذي وصلت إليه الأنظمة والأيديولوجيات "التقدمية". 

منذ منتصف السبعينيات استقر نهج "النظام التقدمي" في سورية، أحد أنظمة نهج الخامس من حزيران، على عدة ركائز، أولها التشدد في "احترام" حدود إسرائيل (اتفاقية فصل القوات عام 1974) و"الاحتفاظ بحق الرد" في كل مرة تقوم فيها إسرائيل بالعدوان على سورية، والتهديد الكلامي بفتح جبهة الجولان في كل مرة يتعرض فيها النظام إلى التهديد، وثانيها بناء جيش كبير مترهل تحت شعار "التوازن الاستراتيجي"، وتحويله من جيش وطني إلى جيش في خدمة استمرار النظام وحسب، وهو ما أدى إلى عسكرة الحياة السياسية والعامة وترييف المدن وتهديم المجتمع المدني، وثالثها بناء تحالفات سياسية متعارضة، مع روسيا والولايات المتحدة، ومع إيران ودول الخليج، تمنحه المرونة واللعب على التوازنات بقصد الاستمرار، ورابعها النزاع مع "الأنظمة القومية" المستبدة الأخرى بهدف احتكار "الشرعية القومية"، وخامسها محاولة الهيمنة على ورقة منظمة التحرير الفلسطينية بما يتيح له المقايضة في السوق الدولي، حتى لو كان ذلك على حساب وحدة أطرافها، وسادسها إنشاء حركات وجماعات مذهبية متطرفة يمكن استخدامها كأوراق، سواء تلك التي يطلق عليها اسم "المقاومة" أو "الحركات الأصولية"، بهدف تخويف البلدان المجاورة ودرء المخاطر عن النظام، وسابعها تغطية السلوكيات السابقة بالمبالغة الإعلامية والكلامية حول نهجه "الممانع" و"المقاوم".

لعل السبب الأكثر أهمية في تنامي سلطان الإسلام الأصولي والمتطرف وانبعاث الهويات ما قبل الوطنية في المنطقة هو تهافت وإخفاق الأيديولوجيات "التقدمية"، القومية والشيوعية، خاصة أن هزيمة حزيران هي، بالتحديد، هزيمتها ومن صنعها من جهة، وأن هذه الأيديولوجيات المهزومة استمرت بالهراء ذاته ممسكة برقاب مجتمعاتنا حتى اليوم من جهة ثانية.

والواقع أن الحركتين القومية والشيوعية/الاشتراكية، على الرغم من تناقضهما الظاهري مع الحركة الاسلامية الأصولية، إلا أنهما تشتركان معها بعناصر واحدة (تغييب الواقع والانطلاق من الماضي فحسب، نمط تفكير معتقدي مغلق، الاستبداد). فالحركتان طرحتا شعارات حديثة بمنهج تفكير تقليدي متخلف، وكانت الحركة القومية العربية في العموم حركة عنصرية تنهل من أساليب الإنشاء والخطابة كل علومها، فيما الشيوعية العربية مجرد أيديولوجية اقتصادية مبنية على عقل تقليدي متخلف، وتكرر ببغائياً مقولات الشيوعية السوفياتية، وغاب عن الحركتين العنصر الأهم، أي "الفكر" الذي من دونه لا يمكن قراءة الواقع والتاريخ. وهو ما جعلهما لا تفرقان بين الاستعمار الغربي والثقافة الديمقراطية ووضعتهما في سلة واحدة. وفي الحقيقة، من الممكن فقط للقومي/أو الشيوعي الذي أنجز بلده ثورة ديمقراطية، أن ينتقد الديمقراطية البرجوازية، وغير ذلك فإن نقده لها يكون إما غبياً أو ماكراً، على حد تعبير ياسين الحافظ. ربما لأجل ذلك يكاد المرء لا يفرق بين خالد بكداش وميشيل عفلق ورمضان البوطي.

لقد كان شعار "إزالة آثار العدوان" الذي طرحه عبد الناصر آنذاك شعاراً واقعياً في ظل ميزان القوى العربي الإسرائيلي آنذاك، بعنصريه المحلي والدولي، فيما يبدو اليوم أعلى بكثير من إمكانات الوضع العربي الذي أنتجته "الأنظمة التقدمية" بشكل رئيسي. تعديل ميزان القوى يبدأ من جعل قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان القضية المركزية، وهذه المسألة هي على النقيض من نهج الخامس من حزيران، نهج أنظمة الاستبداد التي تستر عوراتها بالحديث عن "الممانعة" الكلامية، وتتبنى "المقاومات المذهبية" المضادة على طول الخط لنمو الدولة الوطنية الديمقراطية.

إن إزالة آثار عدوان حزيران لا يتحقق بالسلاح وحده. فالجيوش الوطنية، إذا لم تكن في قوتها تعكس واقعاً اجتماعياً صلباً وقوياً، تصبح في أحسن الأحوال قشرة من حديد يسهل كسرها، فكيف إذا كانت الجيوش المبنية غير وطنية؟ فالمعركة مع إسرائيل لا تعتمد على العدد والعتاد فحسب، بل أولاً على تقدم الإنسان نفسه، وبناء دولة جميع المواطنين، ومفتاح ذلك إزالة الأنظمة التي أنتجت هزيمة حزيران ورعتها ونمّتها طوال نصف قرن.

مقالة خاصة تنشر كل خميس
(101)    هل أعجبتك المقالة (99)

Mazlum dersem

2013-06-06

من بداية الثورة كان ابن ...... هي سم مااع يتحدث عن الثورة الجزائرية وكيف قدمو مليون شهيد وشرح تفاصيل الثورة حتى يفسر الاحلام وكيف كانت والذي منو............. نفس الطريقة سبحان الله . خاف من الله حازم نهار انشا الله ما تشوفو .... انت وكيلو وماااع ..


أيوب

2013-06-07

كلامك جميل ويضع الإصيع على الجرح يا أستاذ حازم. ولعلي أقول بعد أن بلغ بي العمر عتيا بأن حروب العرب ضد إسرائيل ظهرت في النهاية وكأنها دفاع العبد عن قيده، فقد كانت لتستفيد منها هذه الأنظمة في تكريس سلطانها وسلطاتها على رقاب العباد تحت تسميات ومصطلحات رنانة وفضفاضة صارت معروفة للجميع بدأً من عبد الناصر وليس إنتهاءً بالوريث بشار . نعم لقد متنا كشعب لتقوى شوكة سلطاتنا استبداداً وقمعاً ولتستحل أموال وخيرات البلد سرقة وإختلاساً. وهنا استذكر قول الكاتب الكبير عبد الرحمن منيف حيث يقول: عندما كنا صغاراً في المدرسة وسألني المعلم ماذا ستصبح في المستقبل فأحبته على الفور سأصبح طياراً، وعندما كبرت وعلمت أن أصحاب العمائم واللحى هي التي تقود الحروب قلت عن نفسي بأني كنت ولداً أبله. نعم يا استاذ حازم كل هؤولاء المستبدين أصحاب عمائم ولحى، جهال فيما يخص مصالح أوطانهم، أنانيون وأذكياء بخصوص بمصالحهم الخاصة وأموالهم قادوا فينا حروبا ليقتلوننا وليزيدوا السلاسل والقيود على أعناقنا وأجسادنا حتى ألسنتنا باسم تحرير فلسطين والأراضي المحتلة، فلا شيء تحرر سوى أخلاقهم التي بارحت أرواحهم وأجسادهم وصاروا يعيشون من دونها خارج إطار الحد الأدنى من الإنسانية وهو ما بدا ظاهراً في سلوك نظام العهر في بلدنا سوريا وتجاوزاته التي سيكتب التاريخ عنها أطناناً من الكتب، سلطة تقتل شعبها وتدمر ممتلكاته وتحطم دولة كاملة عمرها عمر التاريخ من أجل استمرارها. إنه عار على الإنسانية جمعاء تلك التي لم تقف لتثأر ليس للسورين وإنما لنفسها، للإنسان بحد ذاته الذي صار في سوريا رقماً لايعني لهم شيئاً. لكني رغم الألام وما يعانيه بلدي وأهله أرى طائر الفنيق ينتفض، فلم يحدث أن استطاع أحد إيقاف عجلة التاريخ فما بالك من المجرمين الحالمين الذين يريدون إرجاعها للوراء؟.


التعليقات (2)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي