أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

مخيم اليرموك يوميات العدم ...



...شخصت عيناها وانهالت عليه بالدعاء، لكنه لم يهتم واستمر في توجيه الإهانات لها، صمتت، وتابعت السير في شارع اليرموك، تحمل الآن ثمانية أرغفة خبز وعشر بيضات هن ما تبقى مما صادره ذات الشبيح من صحن بيض وربطتي خبز قبل أن يسمح لها بالدخول، تكمل طريقها باتجاه شارع العروبة حيث ينتظرها ولداها وابنتها، وتفكر لو أن القناص لا يخطئها اليوم...ولا زالت كلماته الأخيرة طازجة في ذهنها:
- ما بك؟...أزعجك كثيراً ضربي لك على (***) ألا يفعل المسلحون ما هو أكثر معكن في الداخل؟؟؟
هي تبكي أثناء طريقها إلى المنزل ولم يعدّ يعنيها تحول السوق الكبير في شارع اليرموك إلى ركام، لكنها لن تقول لابنيها أن الشبيح قد مسها بهذه الطريقة، ستضحك اليوم وهي تروي لهم كيف نجت من الرصاص والقذائف، ستؤلف أي قصة، فقد بكت أمس بما يكفي أثناء الرواية، ما جعل ولدها ابن الثمانية عشر عاماً يقسم عليها أن لا تخرج بعد ذلك إلى السوق، ستبكي الآن حتى المنزل وتُنسي نفسها أن شبيحاً بعمر ولدها خدش عفتها على الملئ، وتضحك لاحقاً.
إعتادت النساء في المخيمات على الخروج يومياً عند السادسة صباحاً إلى حي الزاهرة ليتسوقن بعض الطعام، فليس من الحكمة إرسال الشبان والرجال عبر الحاجز فهم أكثر عرضة للإعتقال أو الضرب، أو الاختفاء، بقرار من شبيحة "حي نسرين" في المدخل الضيق المحاط بالمتاريس في أول اليرموك، ومع أن الكثيرات منهنّ سقطنّ بنيران قناصة أو بقذاف الهاون لكنهنّ لم يتوقفن يوماً عن هذه الرحلة، فيما يتفنن شبيحة الحاجز في تحديد عدد أرغفة الخبز وكمية البيض التي يسمح بدخولها في كل يوم، رفعت المتاريس الرملية عند المدخل وأبقي على ممر ضيق، وترك الجيش للشبيحة القادمين من حي التضامن، حرية الأمر والنهي هناك، بينهم يقف ملثم أو ملثمة يراقب طابور الداخلين، كلمة أو إشارة واحدة من ملثم تكفي لاقتياد أي رجل أو إمرأة إلى داخل حي نسرين، وهو الحي الوحيد الذي لم يهدمه النظام في التضامن، إذ سويت كل حارات التضامن بالأرض وفق ما ينص عليه "المخطط التنظيمي" الذي شمل أيضاً القابون ودرايا والمعضمية وبساتين الرازي وأحياء المزة القديمة.

هجرة الى بيروت
اشتعل مخيم اليرموك في السابع عشر من كانون الأول 2012، وأصبح الفلسطينيون السوريون يحتشدون في عين الكرش أمام مؤسسة اللاجئين، البناء القديم المؤلف من ثلاث طبقات يضم الهجرة والجوازات وشعبة التجنيد والمقر الجديد للمختار ورئيس البلدية، ودائرة النفوس، وهنا أيضاً كل أحاديث المخيم ومآسيه، نساء يحملن رضع، رجال وشبان بملابس منزلية، بعضهم لا يرتدي أحذية وأخريات بلا أي اهتمام بمظهرهن، والجميع متعب وقلق وشبه يائس، إلا من أمل في الحصول على جواز سفر ينقله إلى أي مكان في العالم، عن طريق سفارة في بيروت، وهنا تلتقي العائلات والجيران والأقارب من جديد بعد أن انتشروا في أنحاء دمشق.
يصلهم الخبر... لقد سقطت قذيفة في "الريجة" وأخرى على مشفى فلسطين، وسقط شهيد جديد، يضطرب المنتظرون أمام المؤسسة إلى أن يصلهم اسم الشهيد، ثم يعودون للتزاحم على باب البناء في صفوف غير منظمة، هنا شاب يريد أن يُخرج توكيل لعمه في الضفة الغربية، كي يستخرج له جواز سفر من السلطة الفلسطينية، هو محظوظ لأن له عمٌ هناك والكل يحسده، فجواز كهذا سيسهل له الدخول إلى بعض الدول الأوربية الممنوعة على فلسطينيّ اللجوء، يفتخر الشاب حسن الظهر بميزته أمام شاب أتى كي يحصل على تأجيل للخدمة الإلزامية، هذا رث ومتعب وقلق ويوجه السؤال لأي عابر: هل ألتحق بالجيش؟ فهذا ليس بالوقت المناسب للخدمة في جيش التحرير لكنه لا يملك "واسطة" وربما يُساق موجوداً إلى قطنا المقر الجديد لتدريب جيش التحرير إذا دخل شعبة التجنيد، يطمئنه شاب خبير في منظومة الفساد، فبخمسة آلاف ليرة ستحصل على تأجيل من موظفة شهيرة في الشعبة، بينما يوصيه شاب آخر بعدم الالتحاق تحت أي ظرف كان، بالقرب منهم رجل مع زوجته الحامل أضاعت الزوجة بطاقتها الشخصية أثناء النزوح من المخيم حين خرجت حاملة طفليها وبعض المتاع، والحواجز في دمشق لا تتساهل مع من لا يملك البطاقة، فيما يبحث خمسينيٌ عن المختار فهو بحاجة إلى ورقة منه كي يخرج أثاث منزله قبل أن يُسرق من عصابات ظهرت في المخيم، والمختار اليوم قرر أن لا يصل المكتب، تزدحم الصفوف وتتدافع أمام غضب الحراس في المؤسسة، حارس وهو مجند في الجيش يغضب من الحشود ويبدأ في دفع النساء والرجال ممطراً الجميع بالسباب والشتائم، فيما يشجع رجل طاعن في السن الشبان على مهاجمته، في لحظات تتحول الساحة أمام البناء إلى أرض معركة، يتساقط زجاج النوافذ القريبة وترتفع الأصوات، يشتبك المراجعون مع الموظفين بشكل يومي، وما أن تدخل إلى أحد المكاتب تكتشف أن ما كنت تعرفه عن طريقة دفع الرشوة قد أصبح من الماضي ، فلم تعد بحاجة إلى غمز الموظف ونكزه واصطحابه بعيداً عن الأعين وهو يظهر دلاله وترفعه مع ابتسامة ظننتَ أنها لا تعرف وجهه، الآن الرشوة تعطى علناً أمام بقية الموظفين والمراجعين، فيرميها الموظف في الدرج ويصافح المراجع، ويمضي كل إلى حاله، وحدهم من لا يملكون إلا أجرة الطريق عليهم أن يشاهدوا وينتظروا، فيما تقول لغة جسد الموظفين لهم: لن تحصلوا على أوراقكم يا معدومي الحال.
جيش التحرير
لا تزال الجبهة الشعبية -القيادة العامة- تقاتل في بعض شوارع المخيم بدعم مباشر من الجيش، إلا أن قسماً منها –يقدر بمئتي عنصر- أنشق مع دخول الجيش الحر وبقية الكتائب المعارضة، كان حادث قصف الطائرة للمخيم حدثاً مفصلياً في تغير الموقف الموالي عموماً لدى الفلسطينيين، ما يرويه جيران الغارة عن ذلك اليوم يقول: إن عشر عناصر من الجيش الحر دخلوا المسجد كي يلتقوا بعائلاتهم المهجرة، لكنهم أيضا كانوا يبحثون عن "أبو زرد" وهو أحد قادة الجبهة الذين ينظمون عملية التسليح والقتال ضد الحر، وصل "لأبو زرد" أن عناصر الحر تبحث عنه فأمر بإلقاء الشرائح – بحسب بعض مصادر المخيم رميت الشرائح في المسجد والمدرسة دالةً الطائرة على تجمعات محتملة للحر- ليتحول المسجد مع المدرسة إلى هدف عسكري لطائرة النظام التي أغارت مرتين فاسقطت بين الهدفين "مشفى الباسل"، في ذات توقيت الغارة الجوية، كانت الفصائل الفلسطينية –باستثناء حماس- تعقد اجتماعاً بعلم النظام لتختار وفد تفاوضياً يقابل الحر، في محاولة لتفادي مجزرة وتهجير، لكن النظام لم ينتظر فأحدث مجزرة وقلب طاولة التفاوض.
يخدم الفلسطينيون في جيش التحرير الفلسطيني، الذي يملك ثلاث كتائب تنتشر في قطنا –حطين وأجنادين- وطريق السويداء –القادسية- في حين يضم الطريق الواصل بين العضمية وداريا مقر الأركان، وفيما بقي عناصر جيش التحرير ملتزمين بمقار كتائبهم طوال عام من الثورة من دون مشاركة في القتال –رغم أن طارق الخضراء لواء جيش التحرير تملق للأسد برسالة عاجلة في شهر نيسان من عام الثورة يقترح فيها نصب حواجز على طريق درعا من عناصر قوات القادسية فردّ الأسد الطلب حينها- إلا أن تطور المعارك أجبر الأسد أخيراً على زج عناصر التحرير في ما يسمى حماية المنشآت العامة في خان دنون وعدرا وبعض مناطق الريف، وقتل بعضهم في اشباكات مع الحر، فيما كان الأسرع نحو الإنشقاق فلسطينيوا مخيمات درعا وحلب وحمص، بقي الإنشقاق صعباً أمام سكان مخيمات دمشق واللاذقية.
في انتظار الحل
غابت أو احترقت أو سرقت معارض السيارات في شارع الثلاثين وامتداده، وتحولت شوراع لوبية وصفد إلى جبهات، معظم الأبنية العالية في شوارع المخيمات ركبها القناصة، فيما لايزال أربعون ألف فلسطيني –بحسب تقديرات إحدى الفصائل- يقيمون في المخيمات، ويعاملهم النظام على أنهم "حاضن شعبي للجماعات المسلحة" ونادراً ما يمر يوم من دون شهيد أو مختطف أو معتقل، فيما استباح بعض مقاتلي المعارضة المنازل الفارغة واستولوا على محتوياتها، فعل ذات الأمر شبيحة وعناصر الجيش، وجميع التجار الكبار خسروا كل ما امتلكوه سابقاً من بضائع ومحال وحتى أسماء، وتحولوا إلى ملاك بسطات أو باحثين عن مغادرة سوريا بأي ثمن كان ولأي وجهة، فيما ينتظر آخرون حق عودة جديد إلى مخيم اليرموك، وتنظم لهم الفصائل أيام عودة جماعية انطلاقاً من دوار البطيخة في أيام الجمع –كان آخرها في 22 آذار- على وقع مفاوضات لا تهدأ بين الفصائل والوجهاء وقيادات الكتائب المسلحة، يلتقي الطرفان فيما يراقب النظام المفاوضات ويستمر في قصفه المدفعي، تطلب الكتائب إزالة حاجز الجيش من دوار البطيخة، وتطلب الفصائل انسحاب الكتائب، تطلب الكتائب منع انتشار السلاح في المخيمات، وتطلب الفصائل النأي عن المخيم، تفشل المفاوضات، ويستمر القصف، ويتواصل اللجوء.

عامر محمد - زمان الوصل
(118)    هل أعجبتك المقالة (151)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي