"إعتصام ..اعتصام... حتى يسقط النظام" لم يكن أهل حمص نفسهم يتخيلون أن حناجرهم ستصدح بهذا الهتاف وفي مركز المدينة بالقرب من ساعة حمص الجديدة، حيث توافد ما يقارب من مائة ألف متظاهر من كافة أحياء حمص وذلك بعد تشييع الشهداء الذين سقطوا في حي باب الدريب يوم السابع عشر من نيسان، والذي يصادف ذكرى عيد الاستقلال حيث أجرى العشرات من شباب حمص اعتصاماً في أحد ساحات الحي ليعبروا عن مطالبهم بالحرية، فكان الرد من قبل عناصر الأمن بإطلاق النار بشكل مباشر على المعتصمين وإيقاع مئات الشهداء في صفوفهم.
تحقق الحلم والوصول إلى الساحة:
عاد الناس في اليوم التالي بعد التشييع مباشرة ليعتصموا في مركز المدينة بالقرب من ساعة حمص المعروفة باسم الساعة الجديدة حيث وصل إلى الساحة بضعة آلاف من المشيعين، لتتوافد معهم قوات الأمن إلى المكان وتحاول فض الاعتصام فتحرك علماء الدين المتواجدون في ساحة الإعتصام باتجاه إجراء تهدئة مع قوات الأمن من أجل منع وقوع شهداء في صفوف المدنيين، ولا سيما أن قوات الأمن تحيط بالمعتصمين من كل جانب، وفعلاً إستطاع المشايخ أن يكسبوا المزيد من الوقت لمنع عناصر الأمن من إطلاق النار، وفي هذا الوقت كان خبر الاعتصام ينتشر في كافة أنحاء حمص لتزحف الجموع من كل حدب وصوب باتجاه ساحة الاعتصام، حتى بلغ عدد المعتصمين في الساحة أكثر من مائة ألف متظاهر من الشيوخ والشباب والنساء والأطفال في حين ذلك كانت قوات الأمن أيضاً تحشد الجنود المدججين بالسلاح حول ساحة الاعتصام.
مشهد داخلي
بعد أن أدى المتظاهرون صلاة المغرب في الساحة بدأت حناجر المتظاهرين تصدح بهتافات الحرية المنشودة حيث لم تظهر على تلك الهتافات أي صفة أو نبرة طائفية أو عنصرية أو غير لائقة، ومن الهتافات التي رددها المتظاهرون يومها "اعتصام ..عتصام ..حتى يسقط النظام" و " واحد واحد واحد ... الشعب السوري واحد" وغيرها من الهتافات الثورية وفي هذا الوقت بدأ المشرفون على الاعتصام وهم في غالبيتهم شباب لا يعرفون بعضهم، وإنما جمعهم القدر في ساحة واحدة حيث باشروا بتنظيم أمور الاعتصام فبدأت مجموعة بإقامة الحواجز حول ساحة الاعتصام وتفتيش كل شخص يريد الدخول إلى الساحة وذلك تخوفاً من قيام النظام بإدخال أسلحة أوالهجوم على الساحة في حين قامت مجموعة أخرى بأخذ مهمة تنظيف الساحة بشكل منتظم على عاتقها، وكذلك مجموعة ثالثة أشرفت على توزيع الأطعمة ومياه الشرب على المعتصمين.
كما قامت مجموعة رابعة بتجهيز مستلزمات الإنارة ومكبرات الصوت وتنظيم أمور منصة إلقاء الكلمات في حين تولت مجموعة أخرى أمر حماية الممتلكات العامة المطلة على الساحة لمنع التخريب، وإلحاق الأضرار بالأماكن العامة التي هي ملك للشعب جميعه، وهكذا تقاسم الشباب أمور العمل داخل ساحة الاعتصام بطريقة مثالية ورائعة، حيث أقيمت صلاة العشاء أيضاً في ساحة الاعتصام وألقى عدد من الناشطين والمثقفين كلمات توجيهية وتثقيفية للجماهير وجرت الأمور على أفضل حال دون أن يكون هناك بث مباشر على قنوات الإعلام، وإنما اقتصر الأمر على عدة مكالمات هاتفية أجراها الناشطون مع وكالات الأنباء والقنوات الإخبارية لنقل تفاصيل الاعتصام عبر سماعة الهاتف فقط.
تأبط شراً... يحاصر المكان
أما على الجانب الآخر فقد كانت قوات الأمن تبيّت لأمر ما وتتحرك تحركات مريبة وتحشد أعداداً من الجنود والشبيحة المدججين بالسلاح، ولم يتوقف الأمر هنا وإنما لا تزال التهديدات ترسل إلى المشايخ عبر الهواتف الخليوية والمطالبة بفض الاعتصام فوراً كما حاولت قوات الأمن أن تستفز المتظاهرين وتعكر صفو الوجه الجميل الذي عكسه أهل حمص في اعتصامهم، من خلال إطلاق قنابل صوتية في الهواء لبث الذعر بين المعتصمين ، كما قام عناصر الأمن بإرسال شاب إلى داخل الاعتصام ليصعد إلى مبنى البريد ويقوم بكسر صورة رأس النظام "بشار الأسد" على مرأى الجماهير التي تعالت أصواتها مطالبة بعدم القيام بأي تصرف ربما يعتبره النظام تخريباً.
وفي ساعة متأخرة من الاعتصام بعثت قوات الأمن برجل ملتحٍ ويلبس لباساً إسلامياً ليدخل إلى ساحة الاعتصام ويقوم بجمع عدد من الشبان حوله ويتكلم بعبارات متطرفة ويحاول أن يبث أفكاراً غير لائقة بين صفوف المعتصمين فما كان من شباب الاعتصام إلا أن ألقوا القبض عليه ليكتشفوا بأنه عنصر أمن وليعترف بأن النظام قد أرسله إلى داخل الاعتصام، فقام المعتصمون بطرده خارج ساحة الاعتصام وهكذا استمرت الأمور حتى حوالي منتصف الليل.
التهديدات تتصاعد
بعد منتصف الليل بدأت أعداد قليلة من المعتصمين بمغادرة الساحة لنيل قسط من الراحة، على أن يعودوا في صباح اليوم التالي لمتابعة الاعتصام ولا سيما أن ساحة الاعتصام لم تكن مجهزة بخيام للنوم سوى خيمة واحدة أقامها شباب الاعتصام وأطلقوا عليها اسم خيمة الوحدة الوطنية، وفي حين ذلك بدأت التهديدات والضغوط تتزايد على علماء الدين، ولا سيما الشيخ محمود الدالاتي الذي تلقى اتصالاً من شقيق الرئيس السوري "ماهر الأسد" ليطالبه بفض الاعتصام حالاً وإلا فالعواقب ستكون وخيمة بالنسبة للمعتصمين، فما كان من الشيخ الدالاتي إلا أن أخبر المعتصمين الذين تحلقوا في حلقات بعضها للنقاش وبعضها للنوم وبعضها للهتاف، فأخبرهم الشيخ بحقيقة الأمر وتعالت الأصوات تطالب بمتابعة الاعتصام مهما كانت النتائج فما كان من الشيخ إلا أن انضم إلى المعتصمين، ومرت الدقائق بتوتر على ساحة الاعتصام ولا سيما بعد التهديد الجدي بإطلاق النار وفي تمام الساعة الثانية إلا عشر دقائق فوجئ الناس في ساحة الاعتصام بقوات الأمن تعلن بداية المجزرة وتفتح نيران رشاشاتها مباشرة اتجاه المعتصمين ليسقط المئات من الشهداء على أرض ساحة الحرية والمئات من الجرحى، ويجري سيل من الدماء الطاهرة على أرض حمص ولتنتقل سيادة الموقف من الرقي والمثالية إلى الإجرام والدماء واستمر إطلاق النار حوالي ساعة في كافة أنحاء حمص...
الفزعة
مع سماع صوت أول رصاصة في المدينة عرف أهل حمص بأن المجزرة ترتكب الآن فسارع أهل حي ديربعلبة وهو الحي المعروف بامتلاك أهله لبعض الأسلحة الفردية منذ زمن بعيد حيث سارع أهله إلى ساحة الاعتصام، وقاموا بإجراء بعض المناوشات مع عناصر الأمن ليتمكن في هذا الوقت من بقي حياً في الساحة أن يلوذ بالفرار أو يتمكن الناس من سحب بعض الجرحى وبعد ذلك قامت قوات الأمن باقتحام ساحة الاعتصام واعتقال الجرحى، والرقص على جثث الشهداء والهتاف للأسد ومن ثم إزالة جثث الشهداء بواسطة جرافة وسيارة شاحنة حسب ما أفاد شهود عيان حينها، أما عدد الشهداء الذين سقطوا خلال المجزرة فلم يتوضح بدقة احتى الأن وإنما كافة المصادر من شهود العيان تشير إلى أن الرقم يفوق 500 شهيد.
في ذكرى المجزرة:
اليوم وبعد مرور عامين على المجزرة لم ينسَ أهل حمص ساحة الحرية التي باتت اليوم تخضع لسيطرة قوات النظام ولا يستطيع أهل حمص حتى المرور فيها، ولكنهم متأكدون بأن عقارب ساعة حمص ستعود لتنبض مع نبضات قلوبهم لتدق ساعة النصر قريباً حيث قامت مجموعة من ناشطي حمص بتوزيع منشورات وصور تتعلق بالمجزرة في أحياء حمص كافة وذلك رغم التضييق الأمني الذي يفرضه النظام على أحياء حمص كافة.
من البلد | ||
|
عمر الأتاسي حمص - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية