لماذا فشلت المقاومة السلمية في سورية؟

بعد بداية الربيع العربي انتعشت فكرة المقاومة السلمية بشكل سريع للغاية في العالم العربي، فنجاح الفكرة والتطبيق في تونس في إسقاط النظام وانتقالها مصر فتحت تفكيراً جديداً في آليات تطبيقها في بلدان أخرى كاليمن وليبيا وسورية، لكن فشل التطبيق في كل من ليبيا وسورية فتح التفكير أيضاً في عوامل الفشل ولم ينجح تطبيقها في سورية.
تعود فكرة المقاومة السلمية كاستراتيجية لإسقاط الحكومات الدكتاتورية إلى غاندي الذي نجح في قيادة الهند نحو الاستقلال باستخدام وسائل لا عنفية انتهت بإجبار المستعمر البريطاني على الرحيل.
لكن من وضع قواعدها وأصولها الفكرية والتنظيرية كان المفكر الأمريكي جين شارب الذي اعتبر دوماً أن المقاومة السلمية أو مقاومة اللاعنف التي تقود إلى حشد الملايين في المظاهرات ستجبر في النهاية النظام الدكتاتوري على التنازل والخضوع.
أتاحت لي الفرصة لقاء شارب نفسه في بوسطن في أمريكا، ففي منزله المتواضع إلى أبعد الحدود –يصل حتى درجة الفقر- استقبلني البرفسور شارب في مدينة بوسطن في ولاية ماساشوستس الليبرالية في الولايات المتحدة الأمريكية، ومنزله هذا نفسه هو ما يشكل معهد ألبرت أنشتاين الذائع الصيت بسبب كتابات شارب ذاته.
تجاوز شارب الثمانين عاماً دون أن يكون قد تزوج أو أن يمتلك ما يُشعرك أنه استمتع حقاً بحياته، بقدر ما تشعر أن أفكاره هي ما يملأ كل حياته.
مكتبه الذي تتكدس الكتب فوقه وخلفه، لقاءاته مع ناشطين من مختلف دول العالم يرغبون بالاجتماع معه، وكتبه المترجمة إلى الكثير من لغات العالم.
امتلك شارب سمعته الدولية كأبرز منظّر لفكرة الكفاح السلمي أو المقاومة السلمية بهدف إسقاط الأنظمة الدكتاتورية، أفكاره ألهمت الحركات الجماهيرية عبر العالم من خلال الإيمان بقدرة الناس على التغيير سواء في صربيا و جورجيا أو أكرانيا كنماذج ناجحة، ثم بورما وزمبابوي والتيبت وكوبا وغيرها من المجتمعات التي ما زالت تكافح من أجل إنجاز الحرية و تحقيق الديمقراطية في بلدانها.
أما كتبه فقد ترجمت إلى أكثر من 32 لغة عبر العالم، إنه يتابع كل هذه الترجمات بدقة مذهلة، ولا يعطيها موافقته إلا بعد أن يتأكد من أن الترجمة قد نجحت في نقل المعنى المراد لأفكاره، وهو لن يتحقق بالطبع إلا عبر فهم كامل لنظريته في التغيير السياسي والعمل الجماهيري.
ولذلك هناك المئات من الترجمات لأفكاره وكتبه صدر بعضها بالعربية، لكنه لم يكن راضٍ عنها أبداً، سواء عبر ما يصله من تعليقات عن مدى دقة الترجمة والأهم المصطلحات أو المفاهيم التي تلعب دوراً حاسماً في فهم النظرية وقوتها.
لم يكن شارب الأول في ابتكار أفكار المقاومة السلمية أو الكفاح السلمي فقد سبقه غاندي بالتأكيد وعنه استفاد مارتن لوثر كينغ في صراعه من أجل حقوق السود في الولايات المتحدة، وهنري ديفيد ثوريو، وليو تولستوي وغيرهم، إلا أنه كان بالتأكيد أول من وضع كل هذه الأفكار والنظريات في إطار الاستراتيجية السياسية من أجل التغيير السلمي والنضال ضد الديكتاتوريات.
شارب هو الآن متقاعد، بعد ثلاثة عقود قضاها في التدريس في مركز الدراسات الدولية في جامعة هارفرد العريقة.
في عام 1983 أسس مركزه الفكري المتخصص بأفكار المقاومة السلمية تحت اسم "ألبرت أنشتاين" الذي كان أرسل رسالة تأييد لشارب خلال فترة اعتقاله المحدودة، ورأى شارب في ندم أنشتاين عن تاريخه في اختراع أقوى وسائل تدمير البشرية فتكاً وهي القنبلة الذرية مبرراً كي يجعل من اسمه عنواناً لمركزه الفكري المتخصص في الصراع اللاعنفي من أجل التغيير.
بعد تخرجه في عام 1949 ذهب شارب إلى لندن ليعمل مراسلاً للمجلة الأسبوعية "أخبار السلام" Peace News، بعد ذلك طلب منه القيّمون على معهد الفلسفة في النرويج ليأتي إلى أوسلو من أجل دراسة المقاومة السلمية خلال فترة الاحتلال النازي للنروج.
وهناك قابل المئات من الذين ناضلوا ضد الاحتلال النازي بالطرق السلمية عبر رفض إطاعة الأوامر فقط، وهناك شعر بقوة هذه الأفكار.
ذهب بعدها إلى أكسفورد، حيث حاول هناك أن يضع أفكار المقاومة السلمية تلك في إطار نظري وسياسي أوسع يشمل ما يسمى تحليل "نظرية القوة"، أو بالأحرى من أين تستمد السلطة الديكتاتورية قوتها؟
بعدها عاد شارب إلى أوهايو ليحصل على درجة الدكتوراة في علم الاجتماع والتي خصصها لدراسة المقاومة السلمية عند غاندي، حيث صرف ساعات مطولة في قراءة المجلدات الضخمة التي تركها غاندي، وفي ملاحقة قصاصات الورق في الصحافة البريطانية التي كانت ترصد تحركات غاندي وتصريحاته خلال نضاله من أجل نيل الاستقلال الهندي ضد الاحتلال البريطاني.
لكن، ما اكتشفه من خلال الصحافة كان قصة مختلفة تماماً عما قرأه وسمعه عن غاندي ، فلجوء غاندي إلى استراتيجية اللاعنف لم يكن لهدفٍ أخلاقي نابع من كراهة العنف بقدر ما أن غاندي اكتشف أن اللاعنف هو الاستراتيجية الأفضل لتحقيق مبتغاه السياسي وهو نيل الاستقلال عن الاستعمار البريطاني.فغاندي آمن باللاعنف لأنه فعال سياسياً وليس لأنه نقي أخلاقياً.
رؤية شارب العميقة تلك لغاندي هي التي أتاحت له تطوير نظرية استراتيجة للمقاومة اللاعنفية، فليس المطلوب التنزه أخلاقياً بالابتعاد عن العنف بقدر ما هو المطلوب تحقيق التغيير السياسي عبر استراتيجية اللاعنف.
وهو مصدر الخلاف الرئيسي بين رؤية شارب لفكرة المقاومة السلمية (التي أعتبرها ترجمة أفضل من حركة اللاعنف كما ترجمت إلى العربية)، وبين من ركّز على الجانب الأخلاقي في فكرة اللاعنف عند غاندي فأخذت الفكرة عندها معنى دينياً وأخلاقياً أكثر مما هي فكرة تعتمد منظوراً خاصاً لتحليل القوة من أجل تحقيق التغيير السياسي السلمي.
قرر بعدها شارب أن يخلص حياته لهذه الفكرة، ويبتكر الطرائق والآليات الضرورية من أجل تمكين الناس العاديين لإسقاط أنظمتهم الدكتاتورية واستبدالها بأنظمة ديمقراطية تعبر عن طموحاتها ورغباتها.
فالمقاومة السلمية إذاً هي خيار براغماتي للانتصار في الصراع ضد الأنظمة الديكتاتورية، ومع أن البعض يعتبرها خياراً أخلاقياً (أي أولئك الذين يستبعدون استخدام العنف لأسباب دينية أو أخلاقية) ،فإن المقاومة السلمية هي وصف لمجموعة من الأعمال وليست مبدأً أخلاقياً، واختيارها كأداة للصراع هو بسبب فعاليتها وليس لاعتبارات أخلاقية كما قلنا.
ومن هنا نشأ عدد من الأفكار الخاطئة حول المقاومة السلمية التي حاول شارب تباعاً تصحيحها:
1. المقاومة السلمية لا علاقة لها بالسلبية أو الجبن. بل هي فعل إيجابي يحتاج إلى الشجاعة.
2. المقاومة السلمية لا تعتمد على إقناع الطرف الآخر وإنما تعتمد على إحداث مجموعة من الضغوط الاقتصادية والنفسية والاجتماعية والسياسية من أجل إحداث التغيير.
3. المقاومة السلمية لا تفترض أن كل الناس (أخيار) وإنما هي مستعدة للتعامل مع (الأشرار).
4. المقاومة السلمية لا تعني أن مدة الصراع ستكون طويلة،واستخدام العنف لا يعني بالضرورة حسم الصراع بسرعة بل في كثيرٍ من الحالات أدى استخدام المقاومة السلمية إلى الحسم السريع للصراع.
5. المقاومة السلمية لا تفترض أن الطرف الآخر لن يلجأ إلى العنف في محاربتها وهي مستعدة للتعامل مع هذا العنف بطرق سلمية، وقد أثبتت التجربة أن استخدام العنف لا يقضي على المقاومة السلمية بل قد يساعد على انتصارها في كثير من الأحيان.
6. لا يشترط للمشاركة في المقاومة السلمية أن يكون الإنسان قديساً أو مؤمناً باللاعنف كمبدأ بل يمكن أن يقوم بها أشخاص عاديون، وهي كما قلنا أسلوب براغماتي للانتصار على الطرف الآخر القوي وليست مبدأً أخلاقياً وإن كان هذا لا يمنع أن يشارك بها من يعتبرونها مبدأً أخلاقياً.
صحيح أن المقاومة السلمية لم تنجح في جميع الحالات، لكن الصحيح أيضاً أنها نجحت في كثير من الحالات فقد نجحت هذه المقاومة في الإطاحة بالنظام القيصري في روسيا وبتحرير الهند من الاحتلال الانكليزي وفي كسب الحقوق المدنية للسود في أمريكا وفي الإطاحة بكثير من الديكتاتوريات في أوروبا الشرقية وأمريكا الوسطى.
لكن المقاومة السلمية كما نرى تمت في معظم البلدان التي دخلت في مرحلة ما من الاندماج مع المجتمع الدولي بحيث تعنى بشكل ما بتغيير صورتها الدكتاتورية على عكس النظام السوري الذي نادراً ما اكترث لحجم الانتقادات الدولية أو استمع لها، كما أن استخدام العنف من قبل النظام السوري بشكل مكثف غير دينامية الثورة السورية من السلمية إلى استخدام السلاح لحماية أنفسهم وكل ذلك قاد في النهاية إلى فشل استراتيجية المقاومة السلمية.
بكل الأحوال، فإن دراسة تجارب المقاومة السلمية التي نجحت (أو لم تنجح) في الماضي تفيد في الاستفادة منها من أجل صياغة المستقبل. يجب أن ننتبه إلى أن مجرد تكرار أسلوب نجح في الماضي لا يعني أنه سينجح في الحاضر فالمقاومة تحتاج دائماً إلى إبداع أساليب جديدة وليس مجرد تكرار الأساليب القديمة.
هناك مجموعة من التصورات الخاطئة موجودة في أذهان الناس حول المقاومة السلمية لا بد من تصحيحها.
من هذه التصورات أنه يكفي لنجاح هذه المقاومة الامتناع عن استخدام العنف أو أن يملك المقاومون شجاعة بالغة واستعداداً للموت، أو أن المقاومة السلمية لا تنجح إلا في وجه الأنظمة الديمقراطية، أو أن المقاومة السلمية تحتاج إلى دعم عالمي أو مساعدة الإعلام أو أنها تحتاج إلى وقت أطول من المقاومة العنيفة وهذه كلها تصورات غير صحيحة.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية