كنت أسير على ضفاف العاصي بعكس سير المياه، في قرية أم شرشوح. التابعة لناحية تلبيسة، عام 1973. كنت معلماً جديداً في القرية وخجولاً، ففضلت اكتشاف محيط القرية على افتعال صداقة مع أحدهم، وقد سمعت من بعض الشباب أن أحد عجائز القرية، غريب الأطوار والأفكار، قد ابتنى لنفسه غرفة خارج القرية، على ضفاف النهر مباشرة. كنت أمرّ قرب هذه الصومعة عندما جاءني صوت يقول: تفضل أستاذ ميخائيل، القهوة المرة جاهزة، ويمكنك استبدالها، اذا رغبت، بكأس من العرق المتلت شغل كفرام.
كان أبو إلياس منتصباً على ثلاثة، قدميه وعكازه، ويضع نظارات لم أرَ مثلهما في سماكة الزجاج سابقاً. صافحت اليد الممدودة وجلست حيث قادني، في الحديقة الصغيرة التي يزرع كل شيء فيها بيديه، وخاصة البصل والبقدونس والنعناع والفليفة الخضراء.
قال:أعرف عنك كل شيء، هذه طبيعة القرى كلها، إنهم ينتظرون بداية العام الدراسي وقدوم المعلمين كي يفلّوا كل معلم كما يفلّون رؤوس أولادهم من القمل أو الصيبان، إنها طريقتهم المفضلة في تمضية الوقت، بعد العودة من حقولهم، لذلك فهم يعرفون أنك لست حمصي الأصل، وأنك عازب وأنك طالب جامعي. ومن عيوبك، أنك لا تنظر إلى النساء، وخاصة صبايا القرية، كما نقلوا لي أسلوبك في التعليم والذي أعجبني، كما أعجبني أسلوبك في تفسير الأمثال الشعبية لشباب القرية ونقدك للسلبية والاتكالية والخرافات.
قلت له:لماذا اخترت السكن هنا، بعيداً عن منازل القرية؟
قال:لقد اقترضت من الله ثمانين عاماً، عشت بين هؤلاء الناس أكثر من ستين عاماً منها، حيث تعبوا من نقي، وتعبت من بلادتهم وعدم رغبتهم في التعلم. نموذجهم المفضل هو الكذاب والجاهل والنصاب، ومثالهم الشعبي المحبب هو:"مين ما اخد امنا منصحلو يا عمنا". فبنيت هذه الغرفة كي أتفرغ لقراءاتي بعد أن مللت الفلاحة، وهكذا أريحهم مني وأرتاح منهم..
كنت مندهشاً، أسمع وأنظر إلى رجل تجاوز الثمانين، وفجأة سألني:
أحب أن أعرف منك مباشرة: هل أنت مؤمن، هل أنت مسيحي حقيقي؟
كان عمري 24 عاماً، وكنت مؤمناً بالوراثة، فقلت له: نعم.
قال: هل تؤمن بالمسيح الذي حمل سوطه وطرد الباعة والتجار من الهيكل، أم بالمسيح الذي أمر أتباعه أن يديروا خدهم الأيسر لمن يضربهم على الأيمن؟
ضحكت بتهذيب، وقلت:أليس هو نفس المسيح، وهل الإيمان بواحد ينفي الإيمان بالآخر؟
قال: لا، ولكن الإيمان بالمسيح الذي يطرد التجار من الهيكل، يعني الإيمان بالشعب صاحب الهيكل، يعني أن تمارس طقوسك اليومية بين يديه، وسيحاسبك كل يوم على ما قدمت يداك. بينما الإيمان بالآخر فقط يعني أن تتكل عليه كي يقوم هو بما يجب عليك فعله، وأن تستسلم لمن يحكمك ويغتصب حقك في الحياة، أما أنت فإنك ستنال حقك في الآخرة، يعني في الجنة، وستجد دائماً بعض رجال الدين المنافقين الذين يبررون لك تخاذلك ويشجعونك على قبول العبودية.
إننا نعيش الآن حالة أشبه ما تكون بالعبودية، في ظل نظام الحكم الواحد، ولكن سيأتي اليوم الذي سيأخذ فيه الشعب بيديه السوط كما فعل المسيح ليطرد المستبد والتاجر من هيكل الشعب.
الشعب يا بني هو الثورة الهادرة، وعندما يتحرك لا يستطيع أحد وقفه أو منعه من الوصول إلى حقوقه المنهوبة.
مرَّت أربعون عاماً تقريباً حتى رأيتُ كيف أن إيمان الشعب بنفسه و بالله يمكن أن يصنع ثورة سورية فريدة من نوعها بين ثورات شعوب العالم، ويصدق إيمان أبو إلياس بالشعب.
مقال ينشر كل ثلاثاء
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية