يشاع في حمص على سبيل التندر ان الاهالي يتناوبون طوال الليل على اطلاق ابواق سياراتهم في محيط منزل المحافظة بهدف منعه من النوم, كي لا يغفو ويرى حلماً جديداً يؤرقهم ويقلبهم على جمر النار, كما فعل بهم «حلم حمص» الذي رواه المحافظ على الملأ بهدف طرحه للتداول العام, على امل ان يشاركه الجميع هذا الحلم الحالم. في حين رآه الكثيرون كابوساً مرعباً سيقتلعهم من قلب المدينة ليرميهم بعيداً, والاسوأ من ذلك ان هناك من يرى الهدف من المشروع اخلاء حمص من الحماصنة, وان يزرع عوضاً منهم مستثمرون عرب واجانب. فخرج اصحاب المحال والتجار في تظاهرة سلمية للاحتجاج على «الحلم». ونضع «حلم» بين قوسين, لأن الاحلام تفعل فعلها العجيب في حمص, فكيف اذا كانت احلاماً تخص شخصية مثل محافظ مدينتهم بكل ما يعنيه ذلك من قدرة على تحقيق ما يحلم به وبغمضة عين.
مع ان «الحلم حمص» لم يرسم بعد على الورق, بحسب ما قاله المحافظ خلال حوار معه نشرته جريدة «البعث» الاسبوع الماضي, وانما هو مجموع «طموحات وحاجات ورغبات» ابناء حمص العمرانية والخدمية, ولا يرتبط بـ«توافر المال», او بـ«التشريعات النافذة», وليس له «مدة زمنية او تاريخ للتنفيذ», اذ «لا توجد نية او رؤية او فكرة اطلاقا للقيام باستملاكات جديدة», فهو يقوم على «افكار تتم دراستها وتطويرها لتصبح مبادرة».
حتي الآن الكلام ما زال يدور في اطار الحلم, اي انه يحتاج الى الصبر, بمعنى امتلاك القدرة على تفسير ما تلا من كلام المحافظ: من «المقرر أن تتم دراسة التشريعات اللازمة لتمكين جهات الادارة المحلية من تنفيذ هذه المشروعات بشكل منسجم مع فلسفة الحلم»,وبما يحقق «مصلحة جميع الفرقاء وهم المواطن واصحاب المصلحة واصحاب الحقوق ومجلس المدينة دون الاضرار بأحد» وقد تم «تكليف مجلس المدينة للتعاقد على دراسة بعض هذه المشروعات».
ان ثبتت الرؤية, فالكلام السابق ليس مجرد منام يفسخه الصحو, بل نية وعزم لوضع تشريعات تتيح تحقيقه, هذا ما يشير اليه كلام المحافظ «تحقيق مصلحة المواطن» اولا, هذه مفهومه, اذ من المفترض ان يكون الحمصي ابن البلد, اما «اصحاب المصلحة» فهذه تسمية تتسع لابناء البلد وغيرهم كثر من اصحاب المصالح المعروفة وغير المعروفة. اصحاب الحقوق لم يتم تحديدهم, لأنه لم يتم الكشف عن ماهية تلك الحقوق, ربما كان حق التعبير بالتظاهر السلمي وابداء الرأي!! والله اعلم بما في القلوب, اما مجلس المدينة فهو اشهر من نار على علم هو وحقوقه المحفوظة على عين ورأس سكان المحافظة من القاصي والداني.
تأكيد المحافظ في نهاية حواره مع «البعث» لا يحتاج الى ابن سيرين لتفسيره او لتنفيذه, بأن هذا ليس حلماً اذ قال: «لا بد من التأكيد انه من السذاجة بمكان الغاء مشروع مركز المدينة او تطوير افكاره خدمة لاغراض ومصالح البعض القليل», مع ان هذا البعض القليل يقدر عدده بمئات التجار الصغار, وما تبقى من الطبقة الوسطى الحمصية الذين يطعمون بمئات من الافواه الجائعة والعشرات من الاسر في المدينة وري فها, وهم غير مشمولين بالاحلام, بل ان بساطتهم وبسطاتهم المندلقة امام الدكاكين ستشوه المنظر الجمالي الحلمي الذي يتطلع اليه المحافظ, والافضل ان يأخذوا بدل حصتهم حفنة من المال, ويغادروا الى مكان يناسب بؤسهم, او يبنوا لانفسهم حمصا اخرى تشبههم في بادية دير الزور او الحسكة... لأن بادية تدمر مشمولة بالاحلام ولا مكان لهم فيها. بمعنى ليذهبوا الى الهفا.
ردود الفعل على حلم المحافظ لم تتأخر, فبمجرد اعلانه عن «حلم حمص» هاج وماج الحماصنة توجسا من موجة استملاك, ما ادى فورا الى وقف حال السوق, كون رأس المال جبان. فأحجم التجار في المدن الاخرى عن توريد البضائع الى حمص قبل سداد كامل مستحقاتهم المالية على التجار الحماصنة, وهكذا بدأت السيولة تجف من جيوبهم والحركة تتجمد في انتظار ما ستتمخض عنه الاحلام, التي لم يعرف بعد اذا كانت مجرد افكار... ام من السذاجة الغاؤها, كما قال المحافظ. والذي بشر بأن لا فترة زمنية محددة لبدء التنفيذ, ما يعني ان وقف الحال مفتوح الى اجل غير معلوم, وهذا من سوء حظ الحماصنة الذي يشبه حظ المنحوس الازلي الذي وقع على باص مدرسة للبنات فوجد نفسه في احضان السائق.
اغمض المحافظ عينيه, وسعد بحلمه الرومانتيكي الساحر, لكنه روبص الحماصنة, مع ان مدينتهم ستستعيد شبابها وتشارك في مسابقات سوبر ستار للمدن النفطية المستحدثة... بدليل الصور المرافقة للمادة الاعلانية المروجة للمشروع في بعض المواقع الالكترونية.
الصور بلا شك جميلة جداً, بابراجها الزجاجية الشاهقة, وبحدائقها المنمقة, لكنها لا تشبه حمص ولا اهلها, وربما ما كان لمنام المدينة الفاضلة ان يحدث ما احدثه في الشارع الحمصي, لولا انه يصيب قلب المدينة وكبدها بمقتل, بما يعنيه ذلك من نسيج معماري وبشري ونمط عيش يعطي للمدينة خصوصيتها, كسائر المدن العريقة.
المشكلة ليست في التحديث الذي يمثل حلم الجميع, لكن المشكلة في استبدال نمط حياتي راسخ من مئات السنين بنمط حداثوي هجين منزوع الجذور, في حين انه بالامكان اقامة عشرات المشاريع الحالمة في المناطق المهملة والنائية في محيط المدينة ذاتها, ومما يشكل حزاما حديث البنية ومنظما ايضا يحمي المركز القديم من دون ان يقضي على هوية المكان ولا روحه ومن شأنه تخفيف الضغط على المركز عبر خلق مراكز حيوية اخرى تحد من الاكتظاظ والاختناقات.
ولحمص تجربة هامة في منطقة الوعر التي كانت خالية خاوية وتحولت الى حي راق يطمح الكثيرون الى العيش فيه.
فلماذا يطرح مركز المدينة للنقاش علناً. واولا, وبهذا الالحاح المقلق؟!! في حين يمكن البدء بطرح مشاريع اخرى في مناطق التوسع, وبما لا يثير كل هذه المخاوف من احلام جديدة تدفع الحماصنة الى القيام بمناوبة ليلية للتزمير والصفير. معهم حق, فالاحلام ثلاثة انواع, حسب ابن سيرين منها البشرى وهي الصالحة, واخرى التحذير من الشيطان وهي باطلة, وثالثة حديث النفس والتمني والاضغاث... وكلنا امل ان يرسو الحماصنة على بر, ليعرفوا في ايها يصنف €حلم حمص€ الواعد... الواعد بماذا؟!
واخيراً, الحمد لله الذي جعل النوم سباتا, وخلق الناس اشتاتاً.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية