أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

غزة...أرض العزة 6 .. د. ابراهيم حمامي

غزة...أرض العزة

الجزء السادس..... منها

بدأت رحلة العودة، عودة عكسية الى خارج الأرض التي نعشق، عودة قسرية تحكمها ظروف الشتات، عودة بالجسد والبدن لا بالروح والوجدان، عودة لا يعلم إلا الله من تكون عودة منها، تذكرت هنا ما يمنع، المعبر، اتفاقية المعبر المخزية التي وٌقعت عام 2005، ما ينقص غزة لتتحرر هو معبر على العالم الخارجي، بإذنه تعالى سيكون ذلك بعيداً عن الاحتلال وأذنابه.

 

ما زالت بوابة صلاح الدين على حالها، الناس يدخلون ويخرجون، لكن بأعداد أقل، كما كان الدخول عبرها كان كذلك الخروج، من فوق السور الحديدي المائل مررت، شتان بين لحظة الدخول وهذه اللحظة، بين لحظة معانقة الأرض ولحظات فراقها، لكنه فراق لن يدوم طال الزمن أو قصر، فراق مؤقت سنعود بعده إلى وطننا وديارنا.

 

رفح على الجانب المصري مقفلة محالها، بلا سيارات، هكذا هي التعليمات الجديدة، سبحان الله قبل أيام كانت عامرة زاهرة رغم العواصف والأمطار، اليوم مقفلة مقفرة كئيبة، كشعوري تماماً وأنا أترك غزة، تطابقت الأجواء والأحاسيس بين المكان والانسان، نظرت خلفي عبر بوابة صلاح الدين، نظرت في أفق الوطن، أحسست بغصة في حلقي، ومرارة في نفسي، لم اشبع منك يا وطن، لم أقض فيك إلا لحظات قصيرة، لكنها بعودة ان شاء الله، الى اللقاء يا غزة، إلى اللقاء يا فلسطين.

 

كان عليّ أن أمشي مسافة 3 كيلومترات داخل رفح المصرية للوصول إلى أول سيارة، وصلت إلى حيث سمح للسيارات بالوصول، كانت هناك سيارة وحيدة دون ركّاب، "سلام يا اسطى، عالعريش؟"، رد "مصريين بس"، قلت له لا عليك أحمل جوازاً أجنبياً، لم يعجبه واسترسل في شرح الأوامر الصارمة، "مش عايز يتخرب بيتي، دول حيسحبو الرخص والعربية"، بعد تأكيدات وتطمينات ووعود بتحمل المسؤولية ان أوقفونا، وبعد أن دفعت أجرة السيارة كاملة مقدماً، وبعد جهد جهيد، قبل ووافق.

 

انطلق السائق نحو أطراف رفح، وبدأ بالشرح، الحاجزين الأولين هما الأسوأ والأصعب والأشد تعقيداً، عليهما أنزل أغلب الناس اليوم، "ربنا يستر" قالها بقلق، قلت له "اتكل على الله"، الحاجز الأول كان قد أوقف عدداً من السيارات والركاب أمامنا، لكنه أشار لنا بالمرور دون توقف أو سؤال، الحمد لله، يبدو أن مسلسل التساهيل لم ينته بعد، بعده بمئات الأمتار حاجز آخر، السائق قلق من جديد "ده أوحشهم"، اقتربنا من الحاجز، أنزلت شباك السيارة حيث كان يقف المدقق على جهة اليمين، كلمة واحدة نطقت بها "سلام"، أشار بيده "تفضل"، هكذا مررنا على أسوأ الحواجز دون سؤال، مازحت السائق "ايه يا عم هما دول أصعب اتنين"، أقسم لي بأغلظ الايمان أنها تحدث لأول مرة، وأنه يتعرض للسؤال والتدقيق حتى عندما يكون بمفرده، الحمد لله على نعمته، انفرجت أسارير السائق وأكد أن "الباقي سهل"، وهكذا كان حتى وصولنا لمدينة العريش رغم كثرة الحواجز ونقاط التفتيش.

 

في الطريق شاهدنا العشرات من سيارات الأمن المركزي الخضراء تتجه نحو الحدود استعداداً فيما يبدو لاغلاقها، وما هي إلا ساعات بعد خروجي بالفعل أغلق المعبر تماماً، وبقي هناك من بقي، منهم من خرج لاحقاً لوضعه الخاص كالوفد البرلماني البحريني، ومنهم من يحاول الخروج - أو الدخول- حتى هذه اللحظة.

 

في العريش اتصلت بزوجتي مطمئناً، وكذلك اتصلت بصديق مصري أصر أن أذهب إليه حيث هو في محافظة أخرى خارج القاهرة، قبلت ذلك بسرور، واستقليت حافلة النقل العام من العريش إلى حيث يعيش، عندها ولأسباب لا اعرفها لم يعد هاتفي النقال يرسل أو يستقبل، لا تغطية، هكذا انقطعت عن العالم!

 

كانت الحافلة مليئة بالركاب، توقفت مراراً وتكراراً، "البطايق لو سمحتو"، فحص وتدقيق عند كل نقطة، الفلسطيني ممنوع من المرور، خاصة عند كوبري السلام فوق قناة السويس، النقطة عند الكوبري تحولت إلى ما يشبه نقطة حدودية، جيش وشرطة وجمارك وتفتيش وتدقيق في الأوراق، ساعات وساعات مرت في الطريق.

 

قبل ان اصل حيث وجهتي كانت سيدة من العريش تستعد لمغادرة الحافلة، سألها السائق "ايه يا حجة العريش فضيت؟"، فبدأت بانزال اللعنات على الفلسطينيين الذين لم يبقوا لهم شيء حتى الأغنام، أغاظتني وهممت بالرد عليها، لم أفعل فقد سبقني ركاب الحافلة جميعهم، هبوا فيها مستنكرين "ايه يا ست هما خدوا الحاجات من غير ما يدفعو تمنها؟ ولا سرقوها يعني؟ مش انتو زدتو الطاق 60 وبرضو دفعو تمنها؟ الكلام ده ما يصحش"، ومن هذه التعليقات التي أكدت لي أن الشعب المصري بكل طبقاته يعي تماماً ما حدث ولم يتأثر بالحملات الاعلامية الظالمة ضد اخوته من أبناء الشعب الفلسطيني.

 

أخيراً وصلت للبلدة، ولحسن الحظ كان صديقي في الانتظار، لم يكن هناك مجال للاتصال به بعد أن تعطلت شبكة التغطية، سلامات وتحيات توجهنا بعدها لمنزله، كانت لديهم مناسبة الليلة الماضية، زواج أحد أفراد العائلة، أجواء سعيدة في ذلك المنزل الكريم.

 

بادرني بسؤال ان كنت أرغب في المشي في "الغيط"، "يا ريت"، الغيط كان خلف المنزل تماماً، مزروعات وجداول مياه، عالم آخر، الكل يعرف الكل وباسمه، هذا ما نفتقده في الغربة، كنت أرى "الجاموسة" لأول مرة، طبعاً شاهدتها على التلفاز، لكن أين في غير مصر يمكن مشاهدتها مباشرة؟ الأمر قد يبدو مضحكاً، لكنها أمانة النقل والسرد وحقيقة الموقف، عدنا للمنزل، موعدنا كان مع وجبة أسماك لم أتذوق مثلها في حياتي، بحرية ونهرية بخلطة مصرية مميزة، كان كل شيء في تلك البلدة بهيجاً.

 

غص المنزل بوفود القادمين للتهنئة بالزفاف، تمنوا أن أحدثهم عن زيارتي لغزة، أهل مصر يعشقون فلسطين، رغم كل ما قيل ويقال من قبل بعض الكتاب والمسؤولين، ورغم محاولات التفرقة والتشويه، جلسوا وتحلقوا يستمعون باهتمام واستمتاع، بين الحين والآخر تعلو الأصوات "ما شاء الله" "يا سلام" "الله أكبر" "سبحان الله"، هذه هي طبيعة أهل مصر الكنانة، يحبوننا ونحبهم.

 

العشاء كان أيضاً بنكهة مصرية خاصة، كرم "فلاحي" أصيل، "لازم تجرب البط"، عسل القصب، الفطير "المشلتت"، وأصناف أخرى، وسط مرح أهل مصر وخفة دمهم المشهورة، عذراً على التفاصيل مرة أخرى، لكنها ضرورية لانصاف من التقيت بهم، ولأعكس طبيعة كرمهم وضيافتهم.

 

بعد أمسية وسهرة جميلة حان موعد النوم، كان شريط الأيام الماضية يدور في رأسي، كان حلماً وتحقق، دخلت غزة بعد أن ظننت أنه لا مدخل، قضيت فيها ليال ثلاث وكنت أظن أني سأمر فيها بضع يوم، قابلت رجالاتها وأهلها، تجولت فيها، تيسرت الأمور وكأنها كانت مسيّرة، أعود الآن وقد تركت فيها قطعة مني، لك الحمد يا الله، ما أكرمك.

 

مع ساعات الفجر انطلقنا نحو مطار القاهرة، انهيت اجراءات الجوازات والطيران، أقلعت الطائرة في موعدها، وعلى متنها قابلت من كان سبقني إلى غزة بيوم، هل تذكرون الذي اتصل وشرح لي صعوبة الطريق لكنها مفتوحة، كان عائداً على نفس الرحلة، تبادلنا الأحاديث الشجية، هو من غزة وفيها تربى، لكنه كان بشوق اليها بعد طول غياب.

 

اربطوا الأحزمة استعداداً للهبوط، جلست في مقعدي، أسندت رأسي وبكيت، هذه المرة لم تكن دموعاً بل بكاءً بحرارة، في هذه اللحظات وأنا بين السماء والأرض دعوت وشكرت المولى عز وجل من كل قلبي، الأيام الأخيرة كانت كافية لتمنحني طاقة لا حدود لها، وبدأت أنظم كلمات خطرت على بالي، هكذا دون مقدمات:

 

أظلمَوها وظنوا أنهم قاهروها، منارة للشعوب أضحت يقتدوها، غزة الأبية لن تركع وان جوعوها، لن يقدروا عليها ولن يهزموها، قبلة الأحرارغزةيقصدوها، ومنها دروس العز تعلموها.

 

فترة وجيزة وحطت الطائرة في موعدها، وبعد اتمام اجراءات الدخول اتصلت بزوجتي لأطمئنها، كانت في حالة قلق شديد، آخر اتصال كان من العريش، توقعوا وصولي إلى القاهرة، لكني ذهبت في زيارة لمحافظة أخرى، كان هناك من توقع وصولي وانتظر، ثم ذهب للمطار للتوديع فلم نلتق، اتصل بأقاربه ليقول أني لم أركب الطائرة، وبدورهم وفي الساعة السابعة والنصف صباحاً اتصلوا بالمنزل مستفسرين من زوجتي، لا خبر أين هو؟ وذهبت بهم الظنون كل مورد، لحظات فضول وقلق، لكني على أي حال وصلت ولله الحمد.

 

انهالت الاتصالات بين معاتب لعدم اصطحابه، ومهنيء بالزيارة "التاريخية"، ومستفسر متسائل، مشاعر من القلب أبقت على أجواء قطاع غزة التي عشتها، والجميع يطالب بالتفاصيل والتوثيق، حاولت أن أبدأ بذلك منذ اليوم الأول وعجزت، لم استطع أن أغلب دموعي كلما هممت بالكتابة، حتى استطعت بعد ايام وايام أن أبدأ وما زال دمعي يغالبني حتى اللحظة.

 

بعد ايام من وصولي جاءني اتصال من سيدة عرّفت بنفسها واسمها ومكانها شمال غزة، أرملة تعمل براتبها لتعيل أطفالها، قطعوا عنها الراتب مؤخراً، تتكلم بمرارة، تقسم أنها ليست مع أي طرف فلِمَ تُعاقَب، لم استطع الرد، ماذا أقول لأواسيها؟ وما يملك عبد فقير مثلي أمام ظلم واجرام من يتحكمون بالقرار والمال، قلت ذلك لها، كان طلبها بسيطاً كبساطة أهلنا هناك، سمعت أنك كنت هنا، أكتب عن الموضوع، أثره اعلامياً، اسأل كيف أعيل أولادي وأنا الأرملة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم عليك بالظالمين.

 

بدأت بكتابة هذه الأجزاء يوم بيوم، وبدأ معها سيل الرسائل والتعليقات، تحيات ولوم وعتاب وتهاني وغيرها، لماذا لم تزر جباليا الصمود؟ كيف تكون في مدينتنا ولا نعرف؟ سامحك الله لماذا لم تقم بأي فعالية عامة؟، أثرت شجوني، ذكرتني بتجربتي، لست فلسطينية لكن أحببت فلسطين وغزة، والكثير الكثير من الرسائل والاتصالات التي لم استطع الرد عليها جميعاً، حاولت لكنها كثيرة وضيق الوقت يقتلني بين مشاغل العمل اليومي والعائلة والمتابعة، اقرأ كل ما يصلني لكن اعذروني ان لم يكن هناك رد، سامحوني.

 

تفتحت جراح البعض فأسهبوا في شرح معاناتهم، آخرون رصدوا لحظاتهم الأولى في فلسطين حتى عندما دخلوها أسرى مكبلين من جنوب لبنان، آخر يلوم ويعاتب وبعد أن أوضح أنه ليس ب "دحلاني" قال بلهجة غاضبة هل غزة مقار أمنية فقط، لماذا لم يأخذوك إلى المسجد الفلاني والى الكنيسة الفلانية والى قلعة غزة؟ يا أخي وهل تظنني ذهبت لغزة كسائح ب"شورت" وكاميرا؟ لقد ذهبت لأعيش احداثها معها وبين أهلها، أتعرف على معالمها لا للسياحة فيها، ومع ذلك فقد زرت تلك الأماكن، غزة كلها جميلة، لا تغضب.

 

كل هذه المشاعر والعبارات أعطتني زخماً حقيقياً للاستمرار والمواصلة في توثيق تجربتي، لكن استوقفتني ظاهرة لم اتوقعها، عندما كتبت كنت أنقل وبصدق وأمانة أحاسيسي وانفعالاتي كما هي، لامني أحد الأصدقاء بعد الجزء الأول لكثرة الدموع فيما أكتب، لأن الرجل الشرقي يعيبه أن يبكي!، رفضت تلك الفكرة، فالبكاء ليس عيباً ولا ينقص من رجولة أحد، بل أن دموعي كانت تسقط بعد أن تكحلت برؤية وطني وأهلي، لن أتصنع أو أخفي شيء، لكن الظاهرة كانت في كم الرسائل وحتى التعليقاتالتي يقر فيها أصحابها بأسمائهم ومناصبه أنهم ذرفوا الدمع، بل شرحوا بكائياتهم، لم أكن وحدي من بكى شوقاً وحباً للوطن، وأبداً لن تكون دموعنا نقيصة إلا في عقل العنتريات الزائفة.

 

نفخر بك ونعتز يا فلسطين، لا نستبدلك بالعالم كله، هكذا كنا وسنبقى، أنشدت مع المنشدين: "هو فيه مثله الوطن يابا هو فيه مثله، أموت أنا كرمال ترابه هو فيه مثله، يعطونا الأرض بطول وعرض ومثلك والله ما في أرض، حرية أسرك عسل مرك، ثلج جمرك شوكك ورد" - الوطن الذي عاد إليه أهله كما وصف أحدهم قائلاً: ما السر في هذا الوطن الذي يأسر قلوب ابنائه إلى الحد الذي يدفعهم للتهديد بقتل أنفسهم إذا لم يسمحوا لهم بالعودة اليه، إلى السجن كما يصفه الأغراب؟، هل رأيتم سجيناً يقاتل للعودة لسجنه بعد أن خرج منه؟ لا عجب فكل الناس لهم وطن يعيشون فيه، إلا نحن لنا وطن يعيش فينا.

 

كانت هذه رحلتي الأولى إلى جزء من بلادي الغالية، نقلتها بأمانة واختصار، كل لحظة فيها كانت تاريخاً، لم أسجل كلمة واحدة هناك، ولم التقط أية صورة، ستبقى ذكرياتها محفورة في عقلي ووجداني ما حييت، إلى أن يمن الله علي وأكون بإذنه من الذين يدخلون المسجد الأقصى "كما دخلوه أول مرة" فاتحين مكبرين، فأكحل عيني برؤيته وقد تحرر من دنس المحتل، وأصلي فيهواياكم ان شاء الله

 

جزاكم الله خيراً وبارك لكم وبكم، والى اللقاء في القدس والأقصى.

 

البداية

 

[email protected]

16/02/2008

خاص
(116)    هل أعجبتك المقالة (103)

آلاء من فلسطين

2008-02-16

د. ابراهيم حكيك كفى ووفي غزة هي الشعب الفلسطيني ، اللي بتحمل اذى كل الناس مهما زاد الحصار ببقى قوي وعندو كرامه....فلسطينيه وافتخر.


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي