
رحل الروائي الكوبي الكبير "الييغو كاربانتييه" تاركاً لنا وصيته: "إن الإنسان ليس يعرف أبداً لماذا يشقى أو يأمل. إنه يتعذّب ويأمل ويعمل لأناس لن يتسنى له أن يعرفهم. أناس سوف يشقون ويأملون ويعملون لحساب سواهم. وهذا السوى لن يبلغ السعادة هو كذلك، لأن الإنسان يسعى دائماً وراء سعادة ليست من قسمته. لكن عظمة الإنسان تمكن تحديداً في رغبته في تغيير العالم وتحمل الأعباء، في ملكوت السماوات، ليست توجد عظمة يمكن بلوغها. لأن كل شيء هناك تراتب مُقيم. وجود بلا نهاية حيث لا تضحية ولا راحة ولا ملذّات. ولذا، فالإنسان الذي يسحقه الألم والأعباء، جميل في بؤسه، قادر على الحب وسط المآسي، لن يقدَّر له أن يبلغ عظمته... إلا في هذا الملكوت الأرضي".
سنلقي الضوء اليوم على واقع الأطباء والرعاية الصحية، في خضم الثورة السورية، واقعُ من بلغ عظمته في الملكوت الأرضي، سنلقي الضوء على معاناة الأطباء والمسعفين التي بدأت مع اليوم الأول للثورة، وطيلة أشهرها السلمية السبعة الأولى باعتراف رأس النظام، في خطابه أمام مجلس الشعب، وحتى يومنا هذا...
يشير تقرير اللجنة الدولية للصليب الأحمر، إلى التصاعد المثير للقلق في عدد الهجمات التي أصبح يتعرض لها أفراد الطاقم الطبي، والمنشآت الصحية التي يعملون بها، خلال المعارك العسكرية والصراعات المسلحة. وذكر التقرير أن 600 حادثة عنف وهجوم على مستوى العالم، وقعت ضد الأطباء، والممرضين، والمسعفين وسيارات الإسعاف، والمنشآت الصحية، في 16 دولة منها ليبيا وأفغانستان والصومال وكولومبيا، خلال الفترة الممتدة من منتصف عام 2008 إلى نهاية عام 2010.
والمؤسف في هذه الحوادث أنه على رغم أن بعضها يقع عرضاً، إلا أن جزءاً كبيراً منها كان مع سبق الإصرار والترصد، وهو ما يعتبر جريمة حرب بناءً على اتفاقية جنيف، التي تنص على حق جرحى الحروب والصراعات المسلحة في تلقي العلاج الطبي، وعلى حق أفراد الطاقم الطبي في تقديم خدماتهم بأمن وسلام. ولكن بعد مرور أكثر من 150 عاماً على التصديق على هذه المعاهدة، وقبولها من دول العالم قاطبة، لا زالت بنودها تنتهك بشكل منتظم متكرر. والمؤسف في هذا الوضع، وبخلاف وجود نمط من عدم احترام الخدمات الطبية في زمن الحرب والصراع المسلح، أن مثل هذا السلوك المشين أصبح لا يلقى الكثير من الاهتمام من قبل الحكومات، أو منظمات المجتمع الدولي، أو حتى عامة الناس. فقبل سنوات قليلة مضت، كان الوضع مختلفاً إذا ما قصفت سيارة إسعاف، أو هوجم مستشفى من قبل مسلحين، أو تم اعتقال أطباء أو ممرضات، حيث كان المجتمع الدولي برمته يستنكر مثل هذه الأفعال، ولكن الآن لا توجد ردة فعل تذكر.
وعلى رغم من أن الإحصائيات والأرقام تظهر تكراراً هائلاً لمثل هذه الممارسات، إلا أن تلك الإحصائيات والأرقام لا تمثل إلا قمة جبل الجليد، ولا تعبر عن التبعات قصيرة المدى، وطويلة المدى، التي تنتج من هذه الأفعال مثل ترك الأطباء لمواقعهم في مناطق العنف، وفرار بقية أفراد الطاقم الطبي أثناء الصراعات المسلحة، وعجز المستشفيات عن توفير الخدمات الصحية الضرورية، وتوقف حملات التطعيم. وهذه التبعات تؤثر سلباً بدرجة هائلة على الرعاية الصحية المقدمة لجميع أفراد المجتمع، وتحرمهم من العلاج الضروري لمشاكلهم الصحية، الناتجة عن الصراع المسلح، أو من أمراض مزمنة كانوا يعانون منها قبل بدء الصراع.
أما في سوريا فالواقع أكثر قتامة، حيث عانى الجسم الطبي في سوريا منذ اندلاع الثورة الشعبية، من صعوبات جمة تعترض قيامه بواجبه الوظيفي والإنساني في آن معاً، تبدأ من صعوبة الظروف التي يعمل تحت وطأتها وخطر الوصول لإسعاف المتظاهرين وتنتهي بالضغوط التي تمارس عليه من قبل إدارات المستشفيات الحكومية، والتي لا تكتفي بالتقصير الفاضح تجاه المصابين والمرضى، والذين يتم استجوابهم أثناء إصابتهم، كما تمارس ضغوط نفسية على الأطباء من قبل أطباء وممرضين موالين للنظام بالدرجة الأولى، والذين لا يتردد بعضهم حتى في الاعتداء على المرضى والتعاطي بإهمال مع الذين يعانون من وضع صحي دقيق.
يقول روبرت كينغ، الصحفي الذي يعمل مع "بولا ريس المجيز، " والذي أراد أن يوّثق العمل الحسّاس للمستشفيات السريّة في سوريا: "منذ نيسان الماضي وأنا أصور داخل مدينة القصير المحاصرة، وأركز في عملي على رواية قصة المتطوعين من الأطباء والممرضات والذين يعملون على مدار 24 ساعة حرفياً، في المستشفى الوحيد الذي يعالج الناس في المنطقة "مستشفى الدكتور قاسم" ليس فقط لإصابات الحرب وإنما للمشاكل الصحية اليومية من ارتفاع الضغط أو آلام الظهر. ويقع هذا المستشفى وسط منطقة تتبع لقوات المعارضة السورية، ويعتبر الملاذ الوحيد للمصابين منذ أن احتل الجيش التابع للنظام المستشفى الرئيسي واتخذوه مقراً لهم. ويتضمن طاقم المستشفى جراحاً واحداً فقط، كما يخاطر المهربون بأنفسهم لتهريب المعدات الطبية إلى داخل المدينة المحاصرة". يؤمن كينغ بأن الدكتور قاسم ومن معه سيتابعون عمل المعجزات حتى لو زادت عليهم المصاعب.
كما وصف جراح فرنسي عائد من مهمة إنسانية استمرت 19 يوماً في سوريا، ما تشهده مدينة حمص بأنه وحشي، مبدياً ارتياحه لرؤية ذويه بعد مغادرة أرض المجازر. وقال الطبيب الجراح جاك بيريس الذى شارك في تأسيس منظمة "أطباء بلا حدود": إنه تأثر بالقصف وبؤس الناس، ولكنه أيضا تأثر بشجاعتهم رغم ظروف الحياة الصعبة، مضيفاً: "مهمتنا هي الذهاب حيث لا يذهب الآخرون"، ومعلناً استعداده للعودة إلى سوريا مرة أخرى، وتابع الطبيب قائلاً "كنت حزيناً، لقد شاهدت معاناة وحشية لا طائل منها فالأمر لا يطاق، إنه مخز، الناس يموتون ولا أحد يفعل شيئاً".
وكانت منظمة أطباء بلا حدود التي قامت بمهمة سرية في سوريا قد أوجزت رأيها بصراحة تامة، وقالت إن "هدف الجيش السوري هو قتل الجرحى ومن يشتبه في أنه يعالجهم"، كما يؤكد طبيب التخدير الفرنسي الذي طلب عدم كشف هويته "بقينا عشرة أيام في الأراضي السورية بعدما عبرنا تركيا خلسة". وأضاف "تمكنا من التنقل بعدما اتخذنا احتياطات كثيرة في منطقة إدلب" في شمال سوريا التي يحاصرها الجيش. وأضاف أن "الواقع متشابه في كل مكان تقريباً جرحى أصيب معظمهم بالرصاص وشظايا القنابل. وأتذكر أيضاً قدم شخص بترها انفجار لغم مضاد للأفراد. والاعتناء بهؤلاء الأشخاص غالباً ما يقتصر على الإسعافات الأولية".
ومن الصعوبة بمكان تأدية عمل أفضل في بلد يلاحق نظامه المصابين والعاملين في المجال الطبي، أما الجيش فيتعرض للبنى التحتية الطبية، وقال الطبيب الفرنسي إن "المصابين الذين تجرى لهم عمليات يغادرون المستشفى ويعودون إلى منازلهم بسرعة قياسية، وعلى الفور أحياناً، خوفاً من القبض عليهم. ونواجه أيضاً صعوبة في إجراء العمليات. المرافق الصحية دمرت كلها تقريباً، والعاملون في مجال الرعاية الصحية يعتبرون أهدافاً أساسية على غرار المقاتلين".
وأكد طبيب جراح في منظمة أطباء بلا حدود كان ضمن البعثة "يقول الأطباء السوريون إن القبض على طبيب مع مريض يشابه القبض عليه مع سلاح". وقال "إنهم يتعرضون للترهيب". وأضاف هذا الطبيب الذي طلب أيضاً عدم كشف هويته إن "الطبيبين اللذين عملنا معهما أكثر من سواهما خرجا من السجن الذي وضعا فيه لأن السلطات اشتبهت في أنهما قدما مساعدة إلى جرحى أصيبوا خلال تظاهرات سلمية. وقد تعرض أحدهما للتعذيب".
كما رصدت صحيفة "الإندبندنت"، في تقرير لها ما قالت إنه قيام النظام السوري باستهداف العاملين في المجال الطبي. وتقول الصحيفة إن تقريراً لمنظمة أطباء بلا حدود الخيرية يقول إن القوات السورية تستهدف المسعفين والأطباء الذين يعالجون المصابين في النزاع المستمر في سوريا، ويقول باسم مرو كاتب التقرير: إنه على الرغم من أن أطباء بلا حدود غير مصرح لها بالعمل في سوريا، إلا أنها تمكنت من إرسال فرق إلى هناك بصورة سرية، ونقلت الإندبندنت عن طبيب عظام يعمل في إدلب قوله "العثور عليك وأنت تعالج مصاباً يماثل العثور عليك وبحوزتك سلاح. الأجواء في كل المنشآت الطبية متوترة للغاية. يضطر العاملون في الحقل الطبي إلى إعادة المصابين إلى منازلهم بعد تقديم الإسعافات الأولية حتى يتم إجلاء المبنى تحسباً لأي عملية عسكرية". ويشير التقرير إلى أن الكثير من المصابين يمتنعون كلية عن محاولة علاج إصاباتهم خشية أن يعتقلوا أو يعذبوا إذا ذهبوا لمستشفيات تديرها الحكومة.
وفي مواجهة كل هذه الظروف، يبدو أطباء سوريا منقسمون إلى 3 فئات، فئة تضم أطباء مؤيدين للنظام وغير مستعدين لأي تعاون أو تعاطف، وفئة ثانية تقدم مساعدات عن بعد من أدوية ومعدات دون المشاركة على الأرض، إضافة إلى فئة ثالثة تضم أطباء يحملون أرواحهم على يديهم وينزلون إلى المظاهرات غير آبهين بالخطر المحدق بهم، يبحثون عن مكان آمن يضعون عدتهم الطبية فيه.
وبالحديث عن الفئات الثلاث يتبادر للذهن أن الفئات الثلاث أقسموا قسم أبقراط، فمنهم من أوفى بقسمه ومنهم من خان، ولهذا القسم قصة، فقد كانت صناعة الطب قبل أبقراط كنزاً وذخيرة يكنزها الآباء ويدّخرونها للأبناء، وكانت في أهل بيت واحد منسوب إلى أسقليبيوس، وهذا الاسم أعني أسقليبيوس إما أن يكون اسماً لملَك بعثه اللَّه فعلّم الناس الطب وأما أن يكون قوة للَّه عز وجل علمت الناس الطب، وكيف صرفت الحال فهو أول من علم صناعة الطب، ونسب المتعلم الأول إليه على عادة القدماء في تسمية المعلم أباً للمتعلم. وتناسل من المتعلم الأول أهل هذا البيت المنسوبون إلى أسقليبيوس وكان ملوك اليونانيين والعظماء منهم ولم يكونوا يمكنوا غيرهم من تعليم صناعة الطب بل كانت الصناعة فيهم خاصة يعلم الرجل منهم ولده أو ولد ولده فقط، وكان تعليمهم بالمخاطبة ولم يكونوا يدونوها في الكتب وما احتاجوا إلى تدوينه في الكتب دونوه بلغز حتى لا يفهمه أحد سواهم فيفسر ذلك اللغز الأبُ للابن وكان الطب في الملوك والزهاد فقط يقصدون به الإحسان إلى الناس من غير أجرة ولا شرط.
ولم يزل كذلك إلى أن نشأ أبقراط من أهل قو، ودمقراط من أهل أبديرا، وكانا متعاصرين. فأما دمقراط فتزهد وترك تدبير مهنته، وأما أبقراط فرأى أهل بيته قد اختلفوا في صناعة الطب، وتخوف أن يكون ذلك سبباً لفساد الطب، فعمد على أن دونه بإغماض في الكتب. وكان له ولدان فاضلان وهما ثاسلس وذراقن وتلميذ فاضل وهو فولوبس فعلمهم هذه الصناعة وشعر أنها قد تخرج عن أهل أسقليبيوس إلى غيرهم فوضع عهداً استحلف فيه المتعلم لها على أن يكون لازماً للطهارة والفضيلة، ثم وضع ناموساً عرَّف فيه من الذي ينبغي له أن يتعلم صناعة الطب ثم وضع وصية عرَّف فيها جميع ما يحتاج إليه الطبيب في نفسه. "قال أبقراط إني أقسم باللَّه رب الحياة والموت وواهب الصحة وخالق الشفاء وكل علاج، وأقسم بأسقليبيوس، وأقسم بأولياء اللَّه من الرجال والنساء جميعاً، وأشهدهم جميعاً على أني أفي بهذه اليمين وهذا الشرط وأرى أن المعلم لي هذه الصناعة بمنزلة آبائي وأواسيه في معاشي وإذا احتاج إلى مال واسيته وواصلته من مالي. وأما الجنس المتناسل منه فأرى أنه مساو لأخوتي، وأعلم هذه الصناعة إن احتاجوا إلى تعلمها بغير أجرة ولا شرط وأشرك أولادي وأولاد المعلم لي والتلاميذ الذين كتب عليهم الشرط أو حلفوا بالناموس الطبي في الوصايا والعلوم وسائر ما في الصناعة وأما غير هؤلاء فلا أفعل به ذلك. وأقصد في جميع التدابير بقدر طاقتي منفعة المرضى، وأما الأشياء التي تضر بهم وتدني منهم بالجور عليهم فأمنع منها بحسب رأيي. ولا أعطي إذا طلب مني دواء قتالاً، ولا أشير أيضاً بمثل هذه المشورة، وكذلك أيضاً لا أرى أن أدني من النسوة فرزجة تسقط الجنين. وأحفظ نفسي في تدبيري وصناعتي على الزكاة والطهارة. ولا أشق أيضاً عمن في مثانته حجارة ولكن أترك ذلك إلى من كانت حرفته هذا العمل. وكل المنازل التي أدخلها إنما أدخل إليها لمنفعة المرضى. وأنا بحال خارجة عن كل جور وظلم وفساد إراديّ مقصود إليه في سائر الأشياء وفي الجماع للنساء والرجال الأحرار منهم والعبيد وأما الأشياء التي أعاينها في أوقات علاج المرضى أو أسمعها في غير أوقات علاجهم في تصرف الناس من الأشياء التي لا يُنطق بها خارجاً فأمسك عنها وأرى أن أمثالها لا ينطق به. فمن أكمل هذه اليمين ولم يفسد شيئاً كان له أن يكمل تدبيره وصناعته على أفضل الأحوال وأجملها وأن يحمده جميع الناس فيما يأتي من الزمان دائماً ومن تجاوز ذلك كان بضده ناموس الطب لأبقراط".
يبدو الحديث عن أبقراط وقسمه ترفاً، بينما ينقل النظام الجهازَ الطبي المستقل والمحايد إلى صف الأعداء، فبما أن أغلب الأطباء وسائر الطاقم الطبي من مسعفين وممرضين تأبى عليهم ضمائرهم الحرة -فضلاً عن مهنتهم النبيلة- إلا أن يبذلوا غاية الجهد في الإسعاف والعلاج، وبما أن إسعافَ مصابي الثورة وعلاجَهم جريمةٌ في عرف النظام، فقد صار الأطباء والممرضون والمسعفون الأحرار مجرمين... وبينما يستمر النظام في قصف البنى التحتية للمدن، وتتصاعد المعلومات عن إصابات بالكوليرا والتيفوئيد، والحصار يدخل جلد أهالي المدن المحاصرة، وحدها الجرذان في صحة جيدة.
أما عن الدعم العربي والدولي للقطاع الصحي، فقد عدت بالذاكرة إبان الاجتياح الاسرائيلي لبيروت، يوم سئل وليد جنبلاط عن وساطاتٍ تقوم بها إحدى الدول العربية الكبرى، فأجاب "أي نكتة هذه"، وعن موقف الأصدقاء قال: "اسألوا الأصدقاء، نحن ليس عندنا أصدقاء، عندنا أنفسنا وكفى".
نختم ملفنا اليوم بتحيةٍ لكل متطوعٍ ومسعف وممرض وطبيب في ثورتنا المباركة مع الرحابنة والسيدة فيروز ومن مسرحية "جبال الصوان" التي تقول بطلتها "غربة":
اللي بيحاربوا من برا بيضلوا برا
المصدر جوا، لأنو قرر يموت هون النذر..
نقرر نموت أولاً..
اللي ماشيين صوب الموت... بيغلبوا..
مجلة سوريتنا (ياسر مرزوق) باالاتفاق مع زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية