لا زلت أذكر كلام أحد الناشطين الذي أخبرني أن أحداً من رجال الدين لا يُمثله باستثناء رجل واحد لا يحمل الجنسية السورية، لكنه يقول: "وطني سوريا"، وكان يقصد الأب باولو داليالو الإيطالي الموطن..السوري المُشتهى.
مزيج نادر
أصبح الراهب اليسوعي بولص الذي قَطن في دير مار موسى الحبشي في النبك لثلاثة عقود معروفاً لدى أغلب السوريين، لأنه انخرط بكل وضوح في صفوف العمل الإنساني للمتضررين من جراء قصف قوات النظام للمدن السورية، ولأنه أعلن موقفه أنه "منحاز للحق ولمطالب الثورة السورية... منحاز للحرية والديمقراطية" وفق تعبيره، وتوقّع باولو عُنف النظام حين سُئل مطلع عام 2011 عن إمكانية وصول رياح التغيير إلى سوريا فأجاب: "في حال حدوث شيء من هذا القبيل فإنه لن يكون قصيراً ولا سهلاً".
ومن خَبِرَ باولو ـ الذي يعد نفسه سورياً من أصل إيطالي ـ عن قرب يعرف أنه ليس من دعاة التعايش المسيحي الإسلامي الذين يتبجحون بذلك أمام كاميرات التلفزيون السوري، أو في المناسبات الرسمية أمام لافتات أعدت سلفاً مكتوب عليها: "الدين لله والوطن للجميع"، بل اختار ذلك عيشاً حقيقياً في الدير الذي أمّه وأقام فيه الحياة الرهبانية مطلع ثمانينيات القرن الماضي.
دير مارموسى هذا المكان المتربع في جبال القلمون على بوابة الصحراء، بمقدار ارتباطه بالأرض والتاريخ، صار ـ منذ أن سكنه باولو، ورممه، وأحياه ـ شديد الارتباط بشخصه واسمه.
اسمٌ يدرك الزائر خلال ساعات أن صاحبه لم يُقم للحياة المشتركة مع المسلمين أي وسيلة تعليمية أو توجيهية لإعطاء صورة مشرقة عن تداخلهم مع المسيحيين وتداخل المسيحيين معهم في مختلف أنحاء البلاد أمام أعين السياح الأجانب الذين كانوا يناصفون عدد السياح السوريين والعرب في الدير.
باولو اختار سوريا ـ بكل بساطة ـ لأنه تبع نداء قلبه، ووضع رسائل الدير الذي يقيم فيه مع الرهبان والراهبات انطلاقاً من البيئة التي عايشها في النبك ولم تأته من أي خلفية أخرى؛ أي: إنه لم يروّج لنفسه من خلال موضوع يستفز فيه المشاعر الإيجابية كما يحدث مع رجال دين كثر في سوريا، فهناك من دعاة التعايش في المسلمين والمسيحيين من أخلصوا للنظام بشدة في هذا الأمر، ولكنه لم يكن عملاً صادقاً، بل ممثلاً.. وشتان ما بين "بهورة" البعض في مجالسهم المشتركة حين يشبكون الهلال بالصليب لنجاح المناسبة وبين صِدق باولو وقوة بحثه الدؤوب في مجلدات الحوار المسيحي الإسلامي.
وضع باولو فور وصوله إلى سوريا ـ وإلى دير مار يعقوب المُقطع في بلدة قارة بالتحديد قبل توجهه إلى مار موسى ـ المصالحة الإسلامية المسيحية هدفاً وطنياً أساسياً، ولا نقصد هنا المصالحة بعد عداء بين الطرفين بقدر المصالحة في المفاهيم، وكان يتحدث بعمق شديد داخل الدير عن الإسلام، وحتى داخل عظة القداس كان يأتي بشواهد قرآنية يعزز بها قوله.
عاش باولو في الدير حياةً بسيطة للغاية، لكنه كان قريباً من كل ما يحدث في العالم، يتأثر ويؤثر في الحياة السورية الاجتماعية والمدنية، ومن تحدّث إليه قبيل اندلاع ثورة الحرية بقرابة سنة يلمس مدى القهر الذي عايشه من السلطات السورية التي ضيّقت عليه كثيراً لأسباب أمنية، وحدّت الكثير من أنشطته، كما ادعت أن الدير يقوم بما يخالف الأنظمة والقوانين السورية مما اضطر الكاهن المسؤول عن دير مار موسى أن يكتب بياناً صحفياً بليغاً وبلغة عربية تضاهي لغة كبار مستشاري الرئيس السوري، فأرسل له باولو أكثر من عشر رسائل في السنين الماضية دون أن ينجح في فتح ثغرة في جدار الانغلاق والتحصن والتشبث بالسلطة لديه.
باولو مع الثورة والإنسان
مع بداية الأحداث في سوريا تحدثت إلى باولو فوجدته منحازاً بوضوح إلى الشعب السوري المطالب بحريته، كان حراكه ناعماً؛ إذ لم يتضمن في البدايات سوى الصلاة من أجل الذين فُقدوا، ومن أجل المجروحين والمشردين، ثم دعا إلى وقف العنف من قبل السلطة، وحضّر لأسبوع "جهاد روحي" يتخلله الصوم، والصلاة، وقراءة الإنجيل المقدس، وتلاوة القرآن الكريم. وكان هناك قبل ذلك نداء الميلاد وصلوات سلام عدة لسوريا.
في هذه الأثناء كانت السلطات تُحضّر لإقصاء بولص عن عمله وتسفيره خارج البلاد، تحاشياّ لازدياد نشاطه واستقطاب المسيحيين حوله, هنا هبت حملات شعبية تضامنية مع الكاهن الستيني، تحت عناوين وشعارات عدة تُلخص بمغذى واحد هو "لا لطرد الأب باولو".
في السادسة من مساء 22 شباط 2012 اقتحم قرابة ثلاثين مسلحاً ـ وكلّهم ملثّمون إلا قائدهم ـ موقعَ مواشي الدير حيث كان بعض الموظفين، فقلب هؤلاء المسلحون الموقع رأساً على عقب سائلين عن الأب المسؤول وباحثين عن السلاح والمال، كما زعموا، فما كان من الأب إلا أن رفع الصوت عالياً وأمضى أسابيعه الأخيرة مع الثوار في مدينة القصير بالقرب من حمص ليحاول أن يصون العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين.
وأختم مقالي هذا بتصريح أدلى به باولو لجريدة الحياة عن خاتمته قبيل طرده من سوريا بقليل إذ يقول: "أما أين هو منتهاي؟ فإنني أذكر أنه في ذكرى الجمعة العظيمة العام الماضي خرجنا من الدير إلى الوادي باتجاه مقبرة الرهبان بالقرب من صخرة ضخمة، هناك لاحظت مكاناً ضيقاً بطولي تقريباً، يمتد بين شق صخري وبين شجرة زيتون زرعها أحد الرهبان ونَمَتْ بين الصخور، فقلت للجماعة: إذا أراد الله وترحم عليّ فهنا مثواي.. إن شاء الله أجابني إلى هذه الأمنية".
عوّاد حمدان - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية