علمتني الثورة السورية أن أحترمَ حرية الآخر, وحقه في إتخاذ الرأي الذي يُحب, واعتناق الفكر و الدين الذي يريد, و أن يأكل و يلبس و يغني و يمارس مختلف أوجه النشاط الإنساني كما يرتاح.
وعلمتني فيما علمتني ألا أكون شرطياً على سلوك الآخرين و معتقداتهم مهما كان ذلك الأمر مخالفاً لقناعاتي و مبادئي و قيمي الأخلاقية, كما علمتني أن حرية الفرد أمر مقدس بكل المعاني, ولا قيمة و لا معنى للحياة بدون التمتع بهذه الحرية لأنه يستحيل أن يكون الآخر على مقاس قناعاتنا مهما كانت هذه القناعات التي تظل خاصة بنا على حق أو اعتقدنا أنها الحقيقة, و ما نجزم بأنه الحقيقة الآن يمكن أن يتحول إلى كذبة خرقاء فيما بعد و ما تعلمناه في بيوتنا و منازلنا وضمن تجربتنا الحياتية لا يمكن فرضه على الآخرين, و لا بد من تعلم ثقافة الاختلاف و التنوع و ألا نشعر بالمفاجأة بأنه يوجد من يعيش بطريقة مختلفة عنّا, و أتعهد بأني لن أقوم في حياتي بفرض وصايتي على أحد بما فيهم أبنائي بعد استقلالهم أسرياً .. و ألا أكون وصائيا على أحد سواء كان ذكراً أو أنثى .. كما أتعهد وفق مختلف الأدبيات الإنسانية و بحسب ما تعلمته من تجربة ثورة الشعب السوري أن أدافع عن حق الآخر في ممارسة حريته طالما لا يمارس عنفاً ضدّ الآخر ..
علمتني الثورة السورية أشياء أخرى و كثيرة أيضا .. فقد علمتني بأننا نحتاج دوماً لعمليات عصف ذهني و تكسير التابوهات و الخروج عن النمط التقليدي في التفكير .. و المطلوب و بعد أكثر من عام على الثورة أن نثور على أنفسنا .. قناعاتنا .. ما ورثناه و تم تشريبنا إياه ..
هذه الثورة جعلتني أعيد التفكير بالكثير من المسلمات التي تم زراعتها قسراً في مجتمع " تلقيني " عمل النظام على تكريس موروثاته في عصر متجدد .. متعمداً إغلاق كل بوابات تواصل السوريين مع المجتمعات الخارجية .. بما فيها المجتمعات العربية المجاورة, لكي ننسى أن هناك طرقاً أخرى للحياة يمكن أن نعيشها غير تلك التي نحياها في سوريا.
هذه الثورة أعادت صياغة الكثير من المفاهيم .. فعلمتني أن أحلل و أن أعيد تركيب كل المعلومات, أن أسلم بأنه لا يوجد مسلمات .. بل هناك متغيرات دوماً .. وحدها القيم الأخلاقية للإنسان تبقى, فقد تجلى واضحا أن هذه الثورة تعيد تعريف الذات و الهوية و مفهوم الوطن و الوجود و قيمة الدم و معنى الحرية و معنى الجوهر الأخلاقي .. إننا نحتاج لهذه الثورة على أنفسنا و أكثر .. لتليق بنا تضحيات الشهداء .. من أجل وطن .. نبنيه لكل السوريين ..
لقد فتحت هذه الثورة أذهان الكثير من السوريين على ما غاب عنا من أمور, فمن ميزاتها أنها أشركت مختلف الفئات الإجتماعية بمختلف الأعمار و الذهنيات و مستويات التعليم و الفهم و الإدراك في الهم العام, بعد أن كان المواطن السوري مستكيناً مستجيباً و خاضعاً لآلة التلقين, و معزولا عن عميلات التفكير و الابتكار .. بحجة أن هناك من يقوم بعملية التفكير نيابة عنه, و هناك من يقاوم عوضا عنه , و هناك من يقرر له .. فصار بعد هذه الثورة و على نطاق واسع نقاشاً حول الحرية و كيفية ممارستها و مفهوم الحقوق و الواجبات و الاستقلالية الشخصية و مفهوم السلطة و الانتخابات و الديموقراطية و الحرية الدينية و الفكرية و غيرها .. و إذ نشهد في الكثير من الأحيان تصادماً في مختلف تلك النقاشات فهذا يعود لعدم إنجاز الثورة الشاملة التي تحتاج لوقت طويل حتى تتعمق تجربتها و نحن الآن نشهد إرهاصاتها المختلفة بالرغم مما سببه إنكفاء الأقطاب الفكرية التي يمكن أن تسهم في إنارة هذا الدرب الطويل.
إن إنتهاء العنف و البدء بالميل نحو الاستقرار سوف يؤدي إلى نضوج أكبر في تعاملنا مع مفهوم الحرية, و هذا ما سيسهم في تكريس ثقافة يحتاجها المجتمع و متعطش لها .. سوريا الآن ليست بخير حتماً .. لكنها ستكون بخير حتماً , و سوف تكون حرة حتماً , و ينال كل السوريين حصتهم من منجزات هذه الثورة التي رفعت شعارها بأنها لكل السوريين و أكدت على لسان ثوارها بأن من سيستفيد منها كل السوريين بما فيهم من يمنعونا من نيل حريتنا و يقوموا بقتلنا..
كما علمتني الثورة بأن أقول " للأعور أعور بعينو " شريطة عدم تجاوز حدود اللياقة المتعارف عليها, و أي شخصية عامة هي عرضة للانتقاد حتماً و حتماً و حتماً .. فثورتنا تعلمنا ألا نكون " منحبكجيين " .. تعلمنا ألا نكون قطيعاً .. بل أن نكون أحراراً .. و لذلك .. لا لمقولة الحيطان التي لها أذان بعد الآن.. فليسمعنا من يسمعنا .. فمن هذه الثورة تعلمنا كيف تقاوم العين المخرز و كيف يواجه ثوارنا ببحة حناجرهم رصاص الدم و القتل و الإخراس ..
فالثورة تعلمنا كيف نكون .. كالشمس .. مثل الدم .. كالحقيقة .. واضحين ..
علمتني الثورة أن أصغي أكثر لصوت جدي السوري قبل مئات السنين حيث يقول الحكيم " أحيكار " وزير الملك سنحاريب في القرن السابع قبل الميلاد:
" يا بنيّ .. الموت خيرٌ لرجل لا راحة له .. الموت أفضل من الحياة المرّة "
و كما أني أسمع صدى مختلطا لصرخات سوريون قدماء مع سوريون جدد و هم يرددون في وجه آلة القمع : الموت ولا المذلة ..
هامش آخير ..
ما أكثر ما يتعلمه المرء إذا ما تمعن في الثورة السورية ..
صحفي و ناشط سوري*
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية