لا تكمن قيمة مهرجان "مساحات شرقية" (22 لغاية 30 أيار) بالقامات الموسيقية ذات الأوزان الثقيلة التي قدمت محاضراتها، بل في الفئة المستفيدة من التقاء مجموعة من أكبر وأهم الباحثين الموسيقيين في البلاد وخارجها، المهرجان في نسخته الثانية ( النسخة الأولى كانت عام 2009 برعاية الأمانة السورية للتنمية) جَعَلَ من مسارح دار الأوبرا ورش عمل يومية وذلك في الشقين (محاضرات – حفلات) للبحث في عنوان واحد هو "الموسيقا الشرقية"على أن عنوان "الشرقية " بحد ذاته أثار العديد من الباحثين فصرفوا ساعات من النقاش بين مؤيد لتقسيم الموسيقا واتبعها بخصائص جغرافيتها، وبين معارض لذلك، كان أبرز المدافعين في الفريق الأول الموسيقي نوري اسكندر، بينما كان رأس الحربة في فريق عدم التوصيف إلا للأرشفة الدكتور فواز باقر.
غياب مبرر وغير مبرر
قوة كل مهرجان في جمهوره، والجمهور في "مساحات شرقية" كان الضلع الغائب بنسبة كبيرة ففي المحاضرات الصباحية - على أهميتها - وجهد الباحثين فيها كان الحضور أقل بكثير من المتوقع، حتى تلك المحاضرات التي تبحث في موسيقانا السورية كان عدد الحضور أقل من أوراق المحاضر، والجميع كان يسأل أين طلاب المعهد العالي للموسيقا؟ (على أقل تقدير)، ربما كان بحاجة المهرجان لطريقة إعلانية أشد كثافة ولفئة مستهدفة في الإعلان، مع تفهمنا لظروف البلاد عموماً، في كل الأحوال الحاضرون على قلتهم كانوا "أقلية هائلة" وهم من أكثر المهتمين في كل تفصيل موسيقي تاريخي.
المحاضرات عصارة تجارب.
اتسمت معظم محاضرات الملتقى بالعُمق والبحث الجاد خصوصا تلك التي لمحاضريها تجارب سابقة في تقديم عرض أمام جمهور فمثلاً محاضرة الباحث التركي فكرت كاركايا تخللها أمثلة حية لعازفين أتراك إضافة إلى رص الأفكار والشرح في الأمكنة المطلوبة بينما عاب بعض المحاضرات الخطابية والنظرية البحتة، فمنهم من اقتطع قسماً من كتاب وتلاه كأي درس في جامعة ومنهم من ذهب بعيدا في التخصص ولم يغزل محاضرته بأي عنصر تشويق أو إيقاع سلس يخفف من حدة النظرية، على أن الطاولة المستديرة التي أدارها الأستاذ نوري اسنكدر وفواز باقر ومياس المياني وكنان العظمة كانت من أنجع الساعات التي حولت القاعة إلى مسرح موسيقي بلا آلات أو غناء.
الحفلات تراث - جديد
اختيار البرنامج نصف نجاح الحفلة... ليس فقط في مهرجان بل في حفلة واحدة بعينها، حتى بين الارتجال والنوتة المدونة داخل القطعة، ذلك ما جعل مساحات شرقية عشرة أيام أعادتنا إلى احتفالية دمشق عاصمة الثقافة، فكل يوم حفلة ذات ثقل مختلف ولثقافات وألوان متعددة فمن الهندي إلى الإيراني والعراقي إلى الهارموني الغربي مع مياس اليماني إلى موسيقى الحجرة إلى رؤى عازفي المعهد العالي ممن قطعوا شوطا جيدا بعد تخرجهم أمثال فراس شهرستان وكنان أدناوي وغيرهم، مع تسجيل ملاحظة عدم الختام بحفل للغناء السوري.
التراث الصوفي الشرقي
يسجل للمهرجان إفساحه المجال للموسيقا الصوفية أو لنقل الدينية الصرفة لتقدم بمهرجان يعنى بموسيقا المنطقة، فأمسية "الذِكر" لفرقة "نوا" أخذتنا إلى إحدى زوايا حلب الهلالية، وقدمت مجموعة من فصول الذِكر الشعرية بطريقة لم تشهدها دار الأوبرا من قبل، وكذلك كانت جوقة القديس رومانوس التي أضافت لمسة الألحان البيزنطية على المهرجان، ومن الناحية السريانية جوقة الفخارون وغنى فيها مغنيين سولو أمثال ليندا بيطار وسناء بركات وسمير ورطان، وكانت الأيام الأولى قد حملت للحضور فرقة صغيرة في عددها غنية جدا في النوعية، وهي تخت الجامعة الأنطونية بقيادة عازف الكمان اللبناني نداء أبو مراد والتي قدمت أمسية بعنوان البشارة، المقام العراقي لم يغب عن مهرجان للموسيقا الشرقية فحضر بقامته العالية يوم الختام الفنان حسين الأعظمي.
نقطة. للمهرجان القادم
لا زلنا بانتظار صدور كتيب لما ضم هذا المهرجان ليستفيد منه الباحثون والصحفيون والمهتمون على حد سواء، وسأذكر طويلاً ذلك الرجل الستيني الذي لم يغب لحظة واحدة عن أي فعالية طوال الأيام العشرة يركض خلف المحاضرين لأخذ نسخ من محاضراتهم. ربما كان يستحق كتيب صغير يوثق كل شيء مكتوباً.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية