أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

(قراءة في مسلسل لعنة الطين: الدلالة والشخصيات)

مع انهيال المديح على الأعمال الدرامية السورية المقدمة في دورة رمضان 2010 صار البحث عن معايير نقدية صحيحة جهداً عقيماً أو كالتغريد خارج السرب.

فأيّ نقد يعتبره صانعو العمل اتهاماً مغرضاً أو أنّ صاحبه غير مؤهل للتقييم. وهكذا تشكلت قاعدة في أخلاقيات النقد: إذا لم يعجبك العمل فاصمت. أما من لا يستطيع الاعتصام بالصمت فعليه أن يحتمل اتهاماتٍ بالغيرة واللؤم والتطرف والنزق والاضطراب النفسي والعقلي وغير ذلك... وتضيع جذور المشكلة: هل الافتقار إلى نقّاد دراما منهجيين هو ما يقود إلى هذه المهزلة أم تحوّل المجتمع إلى استهلاكيّ تطغى عليه مفردات التسويق ومفاهيمه.

وسط  أجواء النقد الضبابية  تبدو دراسة مسلسل (لعنة الطين) للكاتب سامر رضوان والمخرج أحمد إبراهيم أحمد غير هينة، خاصة وأنه لا يمكن اختزال مقولاته الكثيرة في مادة كهذه. تأمل هذه السطور أن تقبض على حفنة صغيرة من نور الشمس.

الخط الرئيسيّ للمسلسل يدور حول شاب ريفيّ بسيط (عامر) يحب ابنة الجيران، ويحلم أن يصبح مهندساً، لكنّ الظروفَ تدفعه لترك جامعته والالتحاق بالجيش ليصبحَ ضابطاً في الأمن.  يمر بصراعات بين طبيعته الخيّرة ومتطلبات السلطة وإغراءاتها.  يسحبه الطين للأسفل... يخنقه.  يمدّ عامر قامته متملصاً من ذراع السلطة، فتسحقه، وينتهي في ظلمة السجن. هناك تكتمل صورتها، ويراها عارية واضحة... آلة للقمع والاستبداد... نظاماً قائماً على المصالح المتغيرة، ولهذا لاترتبط بفردٍ، ولاتخلص لأحد.

وتتضح رؤية الكاتب تلك من خلال تركيزه على المقابلة بين مفهومي الجامعة والعسكرية، فإذ تعني الجامعة الحضارة والثقافة والوعي والطموح تجسد العسكرية عالم السلطة والقمع والإذلال والاستلاب، وتحلّ عليها لذلك لعنة الطين. عنوان يحمل دلالات الأرض (المكان) والبشر (الظالمين والمظلومين) والوسخ (الفساد)، ففي زمن الحصار والخوف والفساد تصيب اللعنة الجميعَ بلا استثناء.

اختار الكاتب مرحلة الثمانينات في سورية... زمن الحصار الاقتصادي وهيمنة المخابرات والخوف، لأنها تسمح بتجسيد رؤيته السياسية، ولأنها حادة الملامح والخطوط تمكّن من التقاط العديد من الرسائل الاجتماعية وتوجيهها.  كان ثقل المرحلة طاغياً على الجميع ولهذا اهتم سامر رضوان برصد تأثيرها متنقلاً بين بيئات شتى ومناخات متنوعة، ليحظى المكان عنده -كما الزمان- بأهمية خاصة تجلّت في تصوير مشاهدَ تفصيلية من الحياة اليومية لأماكن عديدة بدءاً من ضيعة عامر الزاخرة بالحكايات والحب والأحلام، والتي مثلت البساطة والطيبة والانفعالات غير الموجهة والمكر الساذج  (أبو عامر- نيرمين وأبوها- أبو العز) في مقابل عنف المدينة وخبثها وتصنعها (طلال- أبو نزار- جوليا).

 بانتقال عامر إلى المدينة يشرّع الكاتبُ نوافذ إبداعه على قصص اجتماعية جديدة، ففي السكن الجامعي في دمشق يلتقي عامر بمجموعة من الشباب (فيروز- جواد- همام- موفق) جاؤوا من أماكن مختلفة، فتوحدوا في همومهم وتفرقوا في خياراتهم. ثم يمضي عامر إلى الكلية الحربية حيث تحضن البذور الأولى لسلطة الاستبداد، ومنها إلى ميدان العمل في الشرطة والأمن السياسي، وكان السجن محطته شبه الأخيرة.

قدّم الكاتب شخصيات من الواقع معبأة بالحلم ومرهونة بشروطها النفسية والاجتماعية والتاريخية، ولأنّ المرحلة لم تبشّر بالأمل كانت الهزيمة مصير معظم الشخصيات .  نيرمين مراهقة لعوب تحب عامر لكنها تتودّد إلى آخر يجلب لها الهدايا.  يعنفها أستاذها في المدرسة لأنها تدخن فتتهمه بالتحرش بها.  وتقودها انفعالاتها الطائشة ومغامراتها البسيطة الحمقاء من فشل إلى آخر خالقة عداوة مزمنة بين عائلتها وعائلة عامر. تنتهي أخيراً بالجنون لأنها تحمل بذوره ولأنّ الزمن والمجتمع يصعدان التوتر في قصتها.  أدّت (كاريس بشار) هذه الشخصية ببراعة لافتة للانتباه رغم قدراتها المعروفة سابقا، وأضافت بمشيتها الصبيانية وحركاتها بعداً جميلاً للشخصية حتى إنه من الصعب تخيل ممثلة أخرى مكانها.

أما عامر النبيل والطيب إلى حد السذاجة فكان من الطبيعي أن يتحول في الزمن القاسي، لأنه لايملك قوة وتجربة وثقافة تحصّنه كالصحفي (وضاح)، لكن طاقة الخير وحب الإنسانية اللذين ربي عليهما في بيته وسكنا روحه مع أنغام فيروز، لابدّ أن يشعا مرات في الظلام ليمكناه أخيراً من رؤية الوجه السلبي للسلطة.  لا تحتمل تلك المرحلة وجودَ النبلاء،  فتقصي عامر إلى غياهب السجن وترمي عمره إلى حواف النسيان. لكن النسيان لن يكون مصير (مكسيم خليل) الذي أبدع في تمثيل هذه الشخصية، ولعلّ دوره هذا سيظل علامة فارقة في مشواره الفني.

من الشخصيات الأخرى التي تستحق الوقوف عندها شخصية (أبي العز) التي أداها عبد المنعم عمايري.  ابن الضيعة الفخور والمتعالي بسذاجة مضحكة. مرابي وانتهازي ويحب خلق الفتن بين الناس، ويبدو أكبر طموحه النيل من جاره (أبو خليل الدكنجي النشح) كما يلقبه،  لكن خططه الشريرة وألاعيبه تبدو مكشوفة للجميع فيتقبلونها بابتسامة وهزة رأس معظم الأحيان.  هذه الشخصية تحمل طبيعة ثابتة طوال المسلسل.  تصنع أغنية مبتذلة وتروجها إعلامياً مستفيدة من سلطة عامر ومتماشية مع المرحلة دون أن تخرج عن سياقها الخاص. إنها رؤية الكاتب وتفسيره لحالة اقتحام الفن الهابط شاشات التلفزة بوقاحة مازلنا نعاني منها.  من يقرأ الشخصية في النص المكتوب سيتمتع أكثر بشحنات الكوميديا التي حمّلها إياها الكاتب، أما في المسلسل المنجز تلفزيونياً، فغالباً ماكانت تثير الغيظ مذكرة بشخصية أم محمود في مسلسل (جميل وهناء) تلك المتطفلة المزعجة إلى حد يثير الغضب بدل الابتسام والضحك،

يؤخذ على المسلسل أنّ الصورة البصرية كانت معتمة وغير واضحة، فإن كان المخرج تعمّد هذا ليوحي بقدم المرحلة المعالجة فإنه من حق المشاهد أن يتمتع بصورة جذابة، كذلك لم يكن الصوت نقياً واضحاً في أكثر من حلقة مما أعاق الفهم قليلاً، ويشفع للمخرج حسن اختيار معظم الممثلين. أما ما ظهر من اضطراب في تسلسل الأحداث زمنياً (بعد التحاق عامر بالجيش) فيبدو أنّه نتيجة لتدخل الرقابة.

يستعمل الممثلون والمخرجون اليوم تعابير مبالغ بها لتسويق أعمالهم الدرامية فيطلقون نبوءة مثل (هذا المسلسل سيكون قفزة في الدراما العربية) ويتفاجأ المشاهد بأنه قفزة إلى الأسفل. هذا الأسلوب في الترويج لن يلبث أن يفقد مصداقيته حتى لو دعمه بعض النقاد.  لايمكن استغفال المشاهد وتضليله، والتجارب تثبت أنه قادر على التذوق والتمييز بين العمل الضحل ومايملك قيمة.  بعيداً عن نبرات المديح والمجاملة التي أصبحت مريبة، يستحق المشاهد أن يرى أعمالاً من مستوى لعنة الطين بما يحمل من رؤية وفهم متكامل للمجتمع والذات والسياسة، ومايتضمن من قيمة أدبية وفنية وموضوعات متنوعة عُرضَ بعضها لأول مرة (موضوع التقمص). 

 رسم الكاتبُ عالماً غنياً وغزيراً في أحداثه وشخصياته ومقولاته، وظل ينسجُ خيوطه بمهارة وصبر وجرأة حتى جاء العمل متقناً خالياً من الإطالة والحشو أو سوء المعالجة متميزاً بالجدة والابتكار.  لقد صعد سامر رضوان في كتابته الدرامية الأولى إلى ذرا لايصلها إلا القليلون، مذكراً بنجاحاته الأخرى كشاعر نال عشرين جائزة عربية وسورية، وكإعلامي حائز على ذهبية مهرجان القاهرة للحوار الإذاعي حين كان عمر تجربته الإعلامية خمسة أشهر فقط.  ترى هل هناك قمم أخرى تتشوّق إلى سامر رضوان... هذا الذي يفجر ينابيع الإبداع حيثما وطأت أقدامه؟

امل عريضة
(526)    هل أعجبتك المقالة (326)

قباء

2018-07-16

طيب مسلسل لعنة طين وين بيجي واي ساعة.


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي