لم تكن المرّة الأولى التي يتعرّض فيها الطفل أحمد (10 سنوات) للتنمّر (وهو شكل أعلى من المضايقات ويأخذ منحى عُنفي بين الأقران) من أقرانه كونه مكتوم القيد، وهو مصطلح لمن ليس لديه اسم في السجلات المدنية الرسمية، نتيجة زواج والدته من عنصر من عناصر تنظيم الدولة "داعش" من الأجانب قبل مقتله، لكن في هذه المرّة كان الأمر مختلفا.
تأخر أحمد بعض الوقت حتى يلتحق بالفصل الدراسي للفترة الصباحية في مدرسة المخيّم حيث كان يدرس في الصف الثالث، ليبدأ الأستاذ هذه المرّة بالتنمّر عليه، قال له: أنتم أبناء الدواعش ما في منكم خير ولازم ما تتعلّموا".، تقول والدة الطفل أنّ طفلها عاد إلى البيت وهو يبكي بعد الحادث، وأخبر أمّه بالتفاصيل لاحقا، ومن بعد تلك الحادثة لم تُجدي نفعا كل المحاولات لإعادته إلى المدرسة، ودخل في سوق العمل بين يدي معلّم ميكانيكي.
يسمح الوضع القانوني للأطفال مكتومي القيد (غير مسجلين في الدوائر الرسمية) أو مجهولي النسب للآخرين التعرّف عليهم، ما يُسهّل عليهم التعرّض للتنمّر وبخاصة من الأقران في المدرسة أو في الشارع وفي بعض الحالات من فئات مجتمعية أكثر وعيا، كما في حالة الطفل أحمد الذي يتقاسم خيمة في تجمّع مخيمات كللي مع أمّه وعائلته المكونة من ثلاث أطفال وطفلة.
تقول آريا حاجي المديرة التنفيذية لمنصّة نيكستوري للإعلام الإنمائي أنّ: "النبذ جراء كتمان القيد يؤدّي حتما إلى زيادة التسرّب المدرسي"، وعلى الرغم من أنّ التسرّب المدرسي وعمالة الأطفال هي من الظواهر البارزة التي ظهرت في ظروف الصراع، إلاّ أنّ الدوافع تختلف بين هؤلاء، فالتمييز القانوني بوصفهم مكتومي القيد يُضاف إليها وصمة العار الاجتماعية الناتجة عن وصم الأطفال بأنّهم "أبناء الدواعش" هي أمور تؤرّق الأمهات خاصة.
عمر أحمد عشرة أعوام، من أبٍ كويتي جاء إلى سوريا لينتظم في صفوف من يُسمّون بالمهاجرين في تنظيم داعش، وأم سوريّة كان عمرها ثلاثة عشرة عاما فقط حين ولدته، وقد قُتل الزوج، وتزوّجت سوزان والدة أحمد مرة أخرى من "مهاجر" مغربي في صفوف التنظيم، ليُقتل هو الآخر، وهكذا خلّفت طفلين من زوجها الأول وطفلا وطفلة من الزوج الثاني، وجميعهم بلا قيد مدني.
يُمثّل أحمد الذي لم يتحمّل واقع المدرسة سوى لسنة دراسية واحدة شريحة كبيرة من ضحايا الحرب أو مواليد الحرب، فقد فتح عينيه على واقع مشتت دون أوراق ثبوتية ومتنقّلا من مكان إلى آخر، ليستقرّ به الأمر في النهاية بمخيّمات كللي شمال غرب سوريا، منذ 2020.
وفي حين يكون هرب أحمد من المدرسة إلى سوق العمل ليعمل بين يدي ميكانيكي، فإنّ الأمر يغدو أصعب في مثال الفتيات، فمثلا لجأت أم سلطان (38 عاما) العائدة من مخيّم الهول بشمال شرق سوريا إلى عدم إرسال بناتها الثلاثة (الكبرى عمرها ثمان سنوات) إلى المدارس لعدم امتلاكهن للثبوتيات وكونهن بلا قيد، وعلى الرغم من أنّ أحد المنظمات المحلية قد عرضت عليهم خدمات لتسهيل الإجراءات في الالتحاق بالمدارس، إلا أنّ أم سلطان تقول أنّ موضوع الثبوتيات مشكلة رئيسية بالنسبة إليهم، حيث لا يقتصر الأمر على الالتحاق بالمدارس فقط، بل إنّ هذا الوضع القانوني، يؤرّقهم حيث أنّهم غير مسجّلين في سجلات رسمية، هذه المشكلات القانونية التي تكبر مع الأطفال، ويبدو أنّ كتمان القيد يفتر عزيمة الأهل على إرسال أطفالهم إلى المدارس، حتى لو أتيح لهم ذلك.
يُضاف إلى ذلك وصمة العار الاجتماعية خاصة بالنسبة للفتيات، حيث تقول أم سلطان أنّ المجتمع لا يتقبّل بناتي، ويوصمهم بـ "أولاد الدواعش" حتى أنّ أهلها لا يتقبّلونهم، بعد أن تزوجت من أحد عناصر تنظيم داعش من "المهاجرين" وهو من المغرب قبل أن تنقطع أخباره في المعارك.
تقول المعالجة النفسية في منظمة جيان لحقوق الإنسان روجين شاويش أنّ "وصمة العار من الممكن أن تؤدي إلى العزلة والانطواء وفقدان التواصل الاجتماعي". وهذا ينطبق على الفتيات في حالة أم سلطان، حيث أنّ العائلة تعتاش على المساعدات التي تقدّمها بعض المنظمات المدنية في الرقة حيث تقيم.
كتمان القيد كنقمة
تُركت بتول (اسم مستعار) لمصيرها بعد أن عاشت في كنف والدتها حتى بلغت سن المدرسة، واستطاعت والدتها ريم الخروج من المخيّم 2021 ضمن رحلات الخروج من مخيّم الهول التي تنظّمها إدارة المخيّم كلّ فترة، لكنّها تنكّرت للفتاة الصغيرة بتول وقالت أنّها ليست ابنتها، ويقول إبراهيم العلي (اسم مستعار) وهو من نازحي دير الزور الذي يسرد قصّة بتول، أنّ الأم تنكّرت لابنتها، لأنّها ترى فيها عبئا، فهي مكتومة القيد، ومن الصعب على الأم تدبّر حياتها معها ،لذلك قرّرت التخلّي عنها، واختلقت الأم حينها قصّة تقول بأنّها تبنّت الطفلة وليست ابنتها.
ظاهرة التخلّي عن الأطفال، الذين يغدون بطبيعة الحال مكتومي القيد تظهر بشكل واضح في معظم المخيّمات، لكنّها تطال عادة حديثي الولادة وخاصة من العلاقات خارج إطار العلاقة الزوجية، إلا أنّ التخلّي عن الأطفال بعد أن يكبروا لا يُعدّ ظاهرة، ويرى إبراهيم أنّ الأم قد تكون صادقة أو لا، لكن الأمور تغدو صعبة خارج المخيّم لشخص دون ثبوتيات.
لا يحتاج سكان المخيّم إلى الكثير من الثبوتيات الرسمية، فهم يتدبّرون أمورهم بالورقيات التي تمنحهم إياها إدارة المخيّم، إلا أنّ الحياة خارج المخيّم صعبة ويحتاج الأطفال فيها إلى ثبوتيات تنسبهم إلى آبائهم وأمهاتهم، وهي عملية تحتاج إلى الكثير من المال والوقت.
مكتومو القيد مصطلح إداريّ سوريّ يُشيرُ إلى عدم وجود الشخص المعنيّ في السجلات الرسميّة. وعرفه السوريون منذ ما يُعرف بالإحصاء الاستثنائي الذي أُجري في محافظة الحسكة لعام 1962، وقد نتج عنه بالإضافة إلى مجرّدي الجنسية فئة مكتومي القيد الذين بلغ عددهم بحسب تقرير حقوقي أكثر من أربعين ألفا حتى بعد تصحيح الوضع القانوني لأكثر من النصف من العدد الكلّي قبل العام 2011.
لكن ومع تطور ظروف الوضع السوري واختلاف قوى السيطرة، ودخول تنظيمات عابرة كتنظيم داعش الذي ضم في صفوفه آلاف المقاتلين الأجانب، كان لها دور في زيجات أجانب من سوريين، خلّفت ضمن ما خلّفته فئة من مواليد الحرب لا تمتلك أية وثائق رسمية، وهذه الفئة هي فئة مكتومي القيد.
حين بسط تنظيم داعش سيطرته على مناطق واسعة من العراق وسوريا ما بين عامي 2014 و2017 وحتى آذار/مارس 2019 حصلت زيجات بين مقاتلين وفتيات من سكان المنطقة، وقد نتج عنها ولادات لكن لم يتم تقديم أي ثبوتيات لهم، وهكذا نتجت فئة مكتومي القيد، أو فئة مجهولي الهوية الذين وُجدوا دون أب أو أم إثر المعارك، أو الأطفال المتروكين، وفي حين أنّ الغالبية العظمى تقطن في مخيّم الهول أشهر المخيمات وأكبرها في شمال شرق سوريا، حيث يقطنه 56 ألف شخص، 50 % منهم أطفال دون 12 سنة، بحسب المنسق المقيم للأمم المتحدة ومنسق الشؤون الإنسانية في سوريا، عمران رضا، بينما تقول إدارة المخيّم أنّ عدد الأطفال الإجمالي في مخيم الهول يبلغ 36279 طفلا، إلى ذلك فإنّ البعض من الخارجين من المخيّم أو الذين فروا إثر المعارك يعيشون في مناطق متعددة في شمال غرب وشمال شرق سوريا.
وبحسب المؤسّسات الرسمية التي التقاها معدّا التحقيق فإنّهم يقولون أنّه لا موانع قانونية تمنع مكتومي القيد من الدراسة، فهم يحتاجون إلى اللجوء إلى لجنة تقدير الأعمار لتقدير أعمارهم والاكتفاء بورقة من الشؤون المدنية والحصول على إخراج قيد النفوس في مناطق شمال غرب سوريا الخاضعة لحكومة الإنقاذ في إدلب والحكومة المؤقتة في أرياف حلب، وورقة من المجلس المحلي (الكومين) في مناطق شمال شرق سوريا الخاضعة لقوات سوريا الديمقراطية.
إلّا أنّ كتمان القيد وصعوبة الحصول على الثبوتيات من دائرة النفوس التي تتبع للنظام السوري تدفع الكثير من الاهالي إلى إخراج أطفالهم من المدارس، حيث لا مستقبل للأطفال، بما أنّهم مكتومو القيد، وهذا ما حصل مع أم عبد الرحمن العائدة من مخيم الهول والتي اعتقل زوجها كونه عنصرا في تنظيم داعش، ولم تستطع تسجيل قسم من أطفالها من زوجها المعتقل، خوفا من التداعيات الأمنية والقانونية التي من الممكن أن تنالها، وامتنعت عن إرسال أطفالها مكتومي القيد للمدارس، وأرسلت ابنها البالغ 11 عاما إلى سوق العمل، بينما تركت ابنتها في المنزل تساعدها في الأعمال المنزلية.
عمالة أطفال وعنف
في مخيّم الهول المترامي الأطراف الذي تبلغ مساحته 3100.00 مترا مربّعا، لا يرى ذوو الأطفال أي مستقبل لأطفالهم، لذا فهم لا يُرسلونهم إلى المدارس التي تستهدف في الحد الأدنى الخروج بالأطفال من عتبة الأمّية بالإضافة إلى توفير مساحات آمنة للأطفال، وخاصة أنّه يربطون عملية التعليم باستكمالها لاحقا في المدارس الحكومية وهو أمر يصعب بشكل كبير بدون ثبوتيات، وإن حصل ذلك فلن يحصلوا على شهادات، هذا القفز للأمام لمستقبل الأطفال دفع عائشة 22 عاما (اسم مستعار) لعدم إرسال ابنها إلى أي مدرسة في المخيّم، والاكتفاء بدورة لتحفيظ القرآن ومبادئ القراءة، ويعمل طفلها البالغ من العمر 10 سنوات في جرّ عربة لنقل الأغراض داخل المخيّم لا يكسب منها إلى القليل، تجده عائشة نافعا أكثر من التحاقه دون طائل في المدارس التي لن يستطيع معها الحصول على أي شهادة مهما طال به الزمن فيها.
وخارج المخيّم تغدو الأمور أصعب فوصمة العار الاجتماعية التي تلاحق أبناء عناصر داعش أو عائدي مخيّم الهول تدفع الأطفال أو ذويهم إلى النأي بأنفسهم عن المدارس، لكنهم لا يختارون دوما سوق العمل، لأنّهم قد يلجؤون إلى العسكرة والتجنيد أو الانجرار لتعاطي المخدرات وترويجها بالنسبة للذكور والزواج المبكّر (في بعض الحالات 12 سنة)، حيث تقول آريا حاجي أنّ هناك موروثا مجتمعيّا في نبذ الأطفال سواء أكانوا مكتومي القيد كونهم أبناء عناصر أجنبية أو مجهولي/ات النسب، مما يشكّل تهديداً على المدى البعيد فيما يتعلق بسهولة استقطاب أولئك الأطفال سواء أكان في تجنيدهم/نّ لدى مختلف الأطراف العسكرية وصولاً إلى التنظيمات الإرهابية، أو التأثير المتراكم لحالة التهميش والنبذ على حالتهم/نّ النفسية وبالتالي سهولة انخراطهم/نّ في أعمال إجرامية والمخدرات والزواج المبكر.
وتؤكّد المعالجة النفسية شاويش أنّ وصمة العار الاجتماعية قد تدفع بالأطفال إما إلى الانكفاء والعزلة والانطواء أو العدوانية واللجوء إلى التشدّد.
حلول مؤجّلة
أرادت حفيظة من مدينة الباب بريف حلب الشرقي، أن يخرُجَ ابنها من المدرسة وينخرط في سوق العمل ليُعيلها، فهي لا تجد له مستقبلا وخاصة أنّه لا يملك أية أوراق ثبوتية فيمنح بها شهادة علمية في المستقبل الضبابي في ظلّ ظروف الحرب، كما أنّ التكلفة العالية لمُعقّبي المعاملات والسماسرة ساهمت بتأجيل التفكير في الأمر، لكن ابنها عامر استطاع أن يدرس لمدة عام ونصف قبل أن يضيق ذرعا بواقعه حيث أنّه على عكس أمّه لم يكن يفكر كثيرا بالشهادات طالما أنّه كان يلعب مع الأطفال، لكنّ أقرانه الذي كانوا يغمزونه ويرمونه بوصمات اجتماعية كقولهم لهم أنّه داعشيّ دفعوه أخيرا للقرار الأخير في الخروج من المدرسة والانخراط في سوق العمل.
عامر الآن يعمل في معمل خردة للحديد، وعمره عشر سنوات فقط، يُنازل الحديد صباح مساء لقاء أجرٍ زهيد، لكنّه يقول بعد أن يمسح عن جبهته صدأ الحديد الذي التصق بها: "الحمد الله أني وفقت بالحصول على هذا العمل. فرغم طول مدته، وصعوبة العمل في ولكن لا حد يوصفني بابن الداعشي".
تُعدّ فئة مكتومي القيد من مواليد الحرب خاصّة أكثر الفئات غبنا، وهي في تزايد يوما بعد آخر، وتبرز المشكلة بشكل أكبر مع النمو في العمر والانخراط في الحياة اليومية والسؤال حول التعليم واستخراج وثائق السفر والتملك وغيرها، ليس الأمر متعلّقا فقط بمواليد الأجانب، بل تبرز في مخيّمات اللجوء خارج سوريا في لبنان وتركيا والظروف السياسية التي تمنع المئات من تسجيل أطفالهم في دوائر النفوس الحكومية.
يرى المحامي عبد العزيز حسن أنّ هذه الإشكالات القانونية وتصحيح الوضع القانوني ليس سهلا، فنحن نتحدّث عن آلاف الحالات الفردية والتي يتم التعامل معها بشكل فردي في كلّ مرة، فضلا عن خوف الكثير من الناس من زيارة دوائر النظام السوري خوفا من الاعتقال على خلفية سياسية أو تشابه أسماء أو أن يكونوا مطلوبين لخدمة الاحتياط.
كما أنّ عدم وجود إحصائيات لهذه الحالات، هو أحد الأمور التي تزيد من تعقيد الأمور فيما لو تم التوافق على حلول بين الأطراف.
يقول الناشط المجتمعي محمد الحسن أنّ من واجب سلطات الأمر الواقع في سوريا القيام بإحصائيات عبر مؤسّساتها وإصدار بطاقات تعريفية لهم ولذويهم، حتى تسهل الأمور بشكل أكبر سواء في معاملاتهم اليومية أو لاحقا في تسهيل الأمر في حلول توافقية سياسية أو غيرها.
عباس علي موسى - علي دالاتي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية