مع ازدياد انزوائه وعزلته وإقامته الدائمة في المنزل في حالة شبه غيبوبة، تزداد تكهنات أم سعيد وجاراتها: بالتأكيد مكتوب له سحر، فحالته غير طبيعية، ما العمل؟.
من مدينة القطيفة إلى عدرا تسافر الأم بعد أن سألت الأقارب والأباعد فدلوها عن (مطَّلِّع) وهو الاسم الشعبي للساحر، لتعرف السر الكامن وراء حالة ابنها.
يبدأ الساحر بسرد تفاصيل خاصة بحياة المريض الغائب وعائلته وسلوكه، مما يدفع الوالدة إلى الاستغراب ومن ثم اليقين بصدق الرجل، أما العلاج فإنه عبارة عن خيط مربوط إلى قرن تيس يُدفن تحت شجرة جوز في المنطقة الخالية القريبة من البلدة بعد أن يُصبغ بدم التيس مع دفعة أولى إلى هذا الساحر: سبعة آلاف ليرة، على أن تعود الأم لأخذ (الحجاب) الذي يوضع في رقبة المريض مع قليل من البخور وسبعة آلاف أخرى بعد أسبوع.
النقطة المفصلية في هذا الأمر هي ما يقوم به الساحر من المعرفة الغيبية، فلولاها لما انساق الناس إليه وتناقلوا أخباره، على أن المريض غالباً لا يُشفى من مرضه بعد هذه الرحلة المريرة، لكن الأهل مع ذلك لا يلومون الساحر لأنهم رأوا معجزته الغيبية أمامهم.
عن هذه النقطة تجيب حنان الخابوري - مرشدة نفسية - لـ(أبيض وأسود): (ليس للسحر أية علاقة بالعلم، إنه عبارة عن تهويمات تؤثر فقط بمن يؤمن بها، فعندما يقوم أهل المريض النفسي بجلب العلاج الذي يؤمنون بأهميته كما يؤمن به المريض قد يُشفى، أما معرفة السحرة بسلوك المريض فهي تتعلق بما يصرح به الأهل كمعطيات تتيح له المعرفة نتيجة الخبرة والممارسة، أو تتعلق بالمريض نفسه حين يراه الساحر، وفي هذه الحالة يلعب علم الفراسة الدور في معرفة وليس للإلهام أو المعرفة الخاصة بهذا الساحر أي دور في الأمر).
لكن إذا كان الإيمان بالشيء حتى ولو كان خطأ يشفي المريض، ألا يمكن أن يكون العلاج النفسي المتجسد بحوار الطبيب مع المريض وهماً ونتائجه تتحقق فقط بسبب الإيمان؟.
تجيب المرشدة النفسية: (هناك فرق كبير بين الشعوذة والعلاج النفسي، فالثاني لا يُشترط إيمان المريض به بل غالباً ما يكون رافضاً، إنما طريقة الحوار بين المريض والطبيب النفسي تساعد الطبيب على فهم المرض حسب المعطيات التي توفرت لديه، وهذا هو العامل الأهم في تشخيص المرض ومن ثمَّ البحث عن العلاج المناسب).
تنتشر في ريف دمشق عادات أخرى قد يقوم بها الأهل الفزعون من تصرفات ابنهم غير الطبيعية، وتكثر في حالات الإغماء، مثل سكب الرصاص.
العدوُّ على رأس المريض:
يقوم الأهل أو امرأة عجوز من الجيران بإذابة كمية من الرصاص ثم سكبها في وعاء صغيرة بعد وضعه على رأس المريض الذي يُصاب بالصرع بين فترة وأخرى، وينتظرون حتى يتجمد الرصاص ويأخذ شكلاً ما يقومون بتفسيره على أنه: شكل امرأة، أو مكان، أو بيت ..إلخ وعلى هذا الأساس يقومون بتخمين عدو المريض الذي قام بكتابة السحر له، أو معرفة مكان سحره، وبمجرد العلم به يعتقدون أن المريض سيُشفى.
هذا الأمر لا يتعلق بتراث ديني بل شعبي بحت، ولا تُعلم أصوله حتى من قِبَلِ الناس المؤمنين بصدقه.
حادثة أخرى يتداولها أبناء منطقة جيرود: عندما كانوا يقومون بحفر الحديقة الصغيرة الخاصة بمنزلهم بهدف اقتلاع إحدى الأشجار المعمرة، وجدوا ورقة ملفوفة بأكياس وأوراق وخيطان كثيرة ومدفونة على عمق متر تقريباً من سطح الأرض.
ولاستقصاء الأمر التقينا بأحد أفراد العائلة، إبراهيم الذي كان يقوم بعملية الحفر، فقال: (قمت بفك اللفائف حول الورقة فحاولت والدتي منعي من ذلك خوفاً من أن تكون سحراً فيصيبني الأذى، لكن فضولي دفعني إلى فتح الورقة، فوجدتها مليئة بالعبارات المتراكمة فوق بعضها البعض وبإشارات غير مفهومة، ومن هذه العبارات: (أحمد «اسم أخي الأكبر» يبقى رهين البيت ويصاب بجلطة، أحمد صداع حاد في الرأس ..إلخ، لقد وضعت العفاريت هذه الورقة في الحديقة).
وبالفعل فقد كانت حالة ابنهم كما هو مكتوب في هذه الورقة، فهو منذ خمس سنوات لم يزاول أي عمل، ويعاني من صداع وشرود دائمين، وعندما قاموا بحرق الورقة شُفي الابن وعاد إلى طبيعته.
عن هذه الحادثة يصرح عباس عوض - إمام مسجد في المنطقة قائلاً : السحر موجود في القرآن الكريم (كذلك ما أتى الذين من قبلـهم من رسول إلا قـالوا ساحـر أو مجنون) وهو قديم في الإسلام وعلاجه يكون بالرقية الشرعية، عن طريق قراءة القرآن والأدعية على المريض أو كتابة الآيات ووضعها في كأس ماء حتى يذوب الحبر ومن ثم شربها، خصوصاً آية الكرسي، ومن المحتمل أن تكون هذه الحادثة صحيحة، لأن كتابة السحر يعترف بها الإسلام ويقرها ويقر علاجها ولكن ليس بالسحر.
اهتمام أم رقية؟:
(هستيريا الاضطراب التحويلي) هو اسم المرض الذي تحدثت عنه المرشدة النفسية، وهو أن يعاني المريض من قلة اهتمام من حوله به مما يدفعه إلى الشعور بالوحدة والدونية، ومع مرور الوقت يصاب بتشنج في أعصابه يفقده القدرة على الحركة، والدافع إلى هذا السلوك محاولة جذب اهتمام الآخرين وعنايتهم، بدليل أن هذه الحالة لا تصيب المريض أبداً عندما يكون وحده، بل بين مجموعة من الناس، فيجلبون له شيخاً ليقرأ عليه ويتجمعون حوله بهدف إخراج الجن الذي بداخله، أو يعالجونه بطريقة سكب الرصاص، وحين يشعر باهتمامهم تزول الحالة تلقائياً، غير أنهم يعزون زوالها إلى القراءة أو السكب أو غيرهما من أنواع العلاج غير العلمي، وينطبق الأمر على الحجاب أو البخور، السبب هو الاهتمام والمراعاة والعناية الدائمة، وهذه الأشياء تشفي المريض حتى ولو لم يكن هناك حجاب أو غيره، ولكن ماذا عن دفن السحر بهذا العمق في حديقة المنزل؟، تجيب الخابوري (إنه مجرد اعتقاد، قد يكون أحدهم يعتقد بجدوى هذه الأمور وقام بدفنه بمنتهى البساطة).
ينتشر السحر بشكل كبير في الأرياف، إلا أنه يقتصر على كبار السن غالباً، وعلى من يعتقدون بجدواه بعد أن فقدوا الوسائل العلاجية الأخرى، خصوصاً عندما لا يفهمون حالة المريض وسببها، أما العلاج فلا يُفهم سببه لأنه مقتصر على السحرة والمشعوذين، فهو ليس علماً واضح الخطوات والملامح.
رقية وسحر وشعوذة لفك السحر في ريف دمشق

ابيض واسود
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية