نحو عامين وأكثر على إطلاق ميزة المساحات الصوتية الجماعية في منصة تويتر، وقبل ذلك بمدة كانت منصة "كلوب هاوس" هي المسيطر بلا منازع على فضاءات الحوارات الصوتية الجماعية، هذه الميزة المبتكرة عوضت نسبيا عن "التغريد" الذي لا يكفي دوما للتعبير عن آرائنا، مواقفنا، وحتى مشاعرنا، ففتحت أفاقا أكثر رحابة لإسماع الناس أصواتهم، ومشاركتهم أفكارهم وانفعالاتهم وتفاعلاتهم.
تقنيا يمكن وصف هذه المنابر الصوتية بأنها راديو ديجيتال أو راديو مابعد الحداثة، كل شخص له إذاعته التي يمكن من خلالها التعبير عبر الأثير عن آرائه في مختلف القضايا، ومشاركة الآخرين آرائهم، يُعنون المستضيف المحتوى، يحدد قضاياه المتنوعة وطرق معالجتهاـ في وسط تحكمه المنافسة والرغبة العارمة في التعبير والكلام. ويعتمد هذا الراديو "المابعد حداثي" على التفاعل المباشر مع الجمهور، فصار تحرير الرسالة الإعلامية بين أطراف عدة، يغذون العملية التواصلية ذهابا وإيابا وفي كل الاتجاهات، لم يعد التواصل رهنا بما يقرره المرسل، الجميع صاروا مرسلين ومستقبلين، يتشاركون صياغة المجال العام من خلال الحوار والنقاش، والتفنيد المباشر للحجج، كانت مساعي كل الإذاعات ووسائل الإعلام التقليدية التي يغلب عليها الطابع الرسمي تعزيز التفاعل مع الجمهور، ولكن هذه المحاولات بقيت دون المطلوب بسبب سيف الرقابة الرسمي. أما عبر هذه المنصات الجديدة فقد أصبح للناس منافذ عدة ونوافذ جديدة بالغة الأهمية والتأثير، بشكل ينافس الإذاعات التقليدية التي لم يعد بالكاد يسمعها أحد.
وبجردة حساب سريعة يمكن ملاحظة أن جمهور هذه المساحات يفوق جمهور إذاعات عريقة مثل "مونتيكارلو" و"بي بي سي" وهذه الأخيرة كانت قد أوقفت قبل مدة وجيزة البث الراديوي المعتاد باللغة العربية والاكتفاء بالبث عبر الانترنت، هذا إذا ما افترضنا أن هناك من بقي من روادهما مستمعا ومتابعا لهما باهتمام مقارنة بالمساحات التي أصابت العديد من متابعيها بالإدمان، وهنا أشير إلى أن هذا الإدمان معرفي بالأساس، حيث تتيح هذه المساحات أفاقا رحبة للحوار والمعرفة، ومروحة من الألوان والتنوع، فالمواضيع كثيرة، ويثريها النقاش باستضافة مختصين لا يمر عليهم الإعلام، وعندما يصل المتحاورون لطريق مسدود يكون الحل بالمزيد من الحوار والنقاش، وعلى غرار يوتيوب صارت هذه المساحات وجهة يومية للمهتمين ورواد وسائل التواصل لتشارك الأخبار، تحليلها، تقديم وجهات نظر متباينة حولها والتعليق عليها. ولا يغفل بالطبع الجانب الاجتماعي لهذه المساحات، فهي أيضا مجلس ضيافة ديجيتال، حتى أن بعض الرواد يطلقون أسماء ثابتة لمساحاتهم بعناوين مثل "المجلس" أو "المضافة" أو "المنتدى" أو "المنبر" وغيرها من الأسماء التي تحيل إلى الأشكال التقليدية للاجتماع والتفاعل البشري ولكن بنكهة رقمية.
الجدير بالذكر في سياق هذا الحديث إلى أن آلية التواصل الصوتي عبر الانترنت كانت متوفرة منذ أكثر من عشرين عاما في غرف "الدردشة" العامة التي تستوعب عددا محددا من المستمعين، ومتحدثا واحدا يحتكر المايكروفون والكلام، ولكن إعادة توظيف هذه التقنية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي تحديدا، جعلت منها ذات تأثير كبير، لاسيما وأن الإنسان المعاصر صار جزء من هويته ومعرفته لذاته أن يشارك الآخرين أفكاره، مشاعره، هواجسه ومخاوفه، ومختلف قضايا الشأن العام.
إنها وسيلة إعلامية مستحدثة، وانتشارها المتزايد يضاعف من أهميتها، فباتت تفرض نفسها كأداة تواصل فريدة بين قطاع الجمهور الواسعـ و بين السلطة والجمهور، وهنا هو التحدي الذي يواجه السلطات لاسيما التي تسعى دوما لفرض رقابة على كل عملية تواصل جماهيرية، ففي الحالة السورية هناك مساعي لبعض الصحفيين والناشطين بالاستثمار في هذه التقنية، و استضافة من يؤثرون بالمجال العام وحياة الناس "من جهة المعارضة" ويتم نقاشهم ومكاشفتهم بل ومجادلتهم، وهكذا أصبح صوت الناس أعلى، وأكثر تأثيرا مما سبق، فهوت الحواجز التقليدية بين السلطة "أي سلطة" وبين الناس وجمهور المواطنين. وعلى هذا الأساس صار السياسي أو المشتغل في المجال العام من مختلف النخب الفكرية أو العسكرية وغيرها، في تحد لجرأته وقدرته على التفاعل والتواجد ضيفا بين الناس العاديين في هذه المساحات الحوارية، التي فرضت نفسها كوسيلة تواصل وإعلام ومنبرا للحوار.
وبطبيعة الحال فإن أجهزة الأمن والاستخبارات " لاسيما في عالمنا العربي" أدركت أهمية هذه الميزة الجديدة، ويبدو أنها فرغت المخبرين التقليديين في المراكز والمنتديات الثقافية والاجتماعية إلى عالم الديجيتال، كيف لا وفي هذه المساحات يعبر المرء عما يجول في باله، وهذا تحديدا ما تريد تلك الأجهزة معرفته، فضلا عن تدخلها من خلال بعض منسوبيها بقيادة دفة المواضيع والنقاش في هذا العالم الفسيح، والذي يعتبر كنزا ثمينا من المعلومات.
ما زالت تجربة المنصات الصوتية وليدة رغم مرور نحو عامين ونيف عليها، لكنها واعدة جدا، وتبشر بأشكال جديدة من وسائل الاتصال الجماهيري، وأولئك الذين أدركوا أهميتها تمكنوا من إيصال أصواتهم، أجنداتهم، أفكارهم إلى المجال العام، والأمثلة أكثر من أن تختصر في مقال، حتى أن بعض وسائل الإعلام وبعض مراكز الدراسات صارت تستثمر فيها، ويمكن القول أن هناك أداة إعلامية صاعدة تؤثر بقوة في المجال العام وتحتاج لمن يتلقفها لكسر أشكال الإعلام الأخرى بما فيها مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت دون هذه المساحات أداة قليدية.
*مؤيد اسكيف - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية