أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

أبو عزمي... سامح الله قلبك ... حسن بلال التل

أعتز بأنني وقياسا الى سني وبفعل انخراط العائلة بالعمل الصحفي منذ قرابة نصف قرن، قد عاصرت، والى حد ما تتلمذت، على يد الكثيرين من صناع المهنة وقدامى أبنائها والبعض من أعمدتها وبحمد الله مازلت.

وأنني اذكر عندما كانت الطباعة بالآلات الكاتبة وصوتها المحبب، ويوم كانت بعض آلات المطابع بحجم طاولة مكتب متوسطة، وكانت الصحف تطبع بِحق بالدم والعرق، وتصدر قبيل الفجر فيما كل ابنائها يفترشون أرض المطبعة الاسمنتية منتظرين مولودهم الجديد.

واعرف ان من اهم دروس المهنة ما كتبه الحاج جمعة حماد وهو: (اذا اردت أن تكون صحفيا فلا بد لك من التعب و(البهدلة) ومن لم يعمل في المطابع ولم يحمل صحيفته على كتفه ويوزعها بيده، في حياته لن يكون صحفيا)، وهي كلمات اتمنى ان يأخذ بها كل صحفي من شباب المهنة حتى يعرف قيمة الحرف والقلم، ويعرف ان مهنة المتاعب هي اسم على مسمى وليست وسيلة ارتزاق ووصول.

وهذه الكلمات كررها على مسامعي والدي عندما قررت (ضد ارادته) الانخراط في مهنة المتاعب، قالها لي وهو يقتادني من يدي ويسلمني الى الاستاذ والعم مصباح حمدان أو (ابو علي) كما يعرفه ابناء الوسط الصحفي، ويقول له: بَهْدِله..

وامتهنت مهنة المتاعب، فاعتنقت هذه الكلمات منهجا ساعدني وحثني عليه أستاذي الاول؛ والدي أطال الله في عمره، ومعه كل اساتذتي بدءا بالعم ابو علي. لذا فطوال شهور كنت في كل اسبوع احمل الصحيفة وأدور بها على المشتركين في الليل والنهار في البرد والحر -وما زلت افعلها كلما شعرت بفتور في الهمة- وحتى اليوم احرص كل الحرص أن اكون في المطبعة في موعد الطباعة، ولا أغادر مكتبي حتى اطمئن أن جولة التوزيع قد انتهت.

هذه كانت احدى نصائح المهنة التي قدمها لي بصورة مباشرة او غير مباشرة بعض اهم اعمدتها وعلى رأسهم الاستاذ المرحوم جمعة حماد، الذي اذكره جيدا وهو جالس في مكاتب اللواء او في منزل جدي في عمان، اما النصيحة الثانية فقد كانت غير مباشرة من الاستاذ الكبير محمود الكايد (ابو عزمي وبالأحرى أبو العزم كما يحب أن يُنادى) الذي لم يتح لي الحظ معرفته مهنيا وإن عرفته انسانيا، فهو العم محمود الذي طالما التقيته في بيتنا وفي مكاتب اللواء وممرات الرأي التي كنت وما زلت ازورها طفلا وشابا، وكانت روايات الصحفيين عن (ابو العزم) أكثر من ان تعد او تحصى، فهو أحد أهم مؤسسي الرأي وراعيها، وهو المناضل السياسي الذي لم تمنعه معتقداته من أن يفتح ابواب وصفحات صحيفته لكل الآراء والاشخاص، وهو نقيب الصحفيين الذي خاض لأجلهم ولأجل مهنتهم معارك ضد حكومات وأقطاب سياسية عز نظير من يخوضها اليوم، وهو أب لكل صحفي في الرأي، وكل من عمل فيها في يوم من الايام، وقد شاهدت بأم عيني أقطابا من رجال المهنة وهم ينحنون ويقبلون يدي (ابو العزم) على مرأى ومسمع من الناس، كان آخرها يوم وقع الشجار المؤسف في انتخابات النقابة الاخيرة، فجاء (ابو العزم) وقال وهو ينزل من سيارته: (زيحو خليني اشوف هالولاد شو مالهم!!) وما كانت الا دقائق حتى كان هؤلاء الاولاد الكهول يقبّلون يدي ابو العزم وينهون خصومتهم..

والاهم من ذلك أنه رئيس التحرير ورئيس مجلس الادارة الذي ما أغلق بابه يوما ولا اعترف بأن للأبواب وجودا او داعيا، في الوقت الذي كان فيه غيره ممن لا يساوونه مكانة وخبرة يضعون الحراس والحجاب ليعزلوهم عن محرريهم وكتابهم وقرائهم.

وقد كانت خلاصات ما سمعت عن (ابو العزم) منهجا آخر اتخذته بعد أن امتهنت (الصنعة الملعونة) كما كان يسميها الحاج جمعة حماد، وقد جعلت من (ابو العزم)وتجربته -أطال الله في عمره وَرَدّ عليه صحته- ، رمزا ومنارا بالنسبة لي، وما زلت احمد الله صباح مساء انني تتلمذت على أمثال هؤلاء وعلى تلامذتهم.

أقول هذه الكلمات بين يدي الواقع المؤلم الذي وصل اليه حال الوسط الصحفي والاعلامي الاردني لاسباب؛ اولها: انه يجب أن يصل الوسط المهني الى توحيد مرجعيات الصحافة والاعلام الاردنيين، وعدم الانسياق وراء اجتهادات -وإن كانت صادقة وحسنة النية- تفريقية فردية تسبب تصنيف الصحافة والاعلام والتفريق بين المطبوع والالكتروني، وبين المكتوب والمرئي او المسموع، وبين اليومي والاسبوعي؛ فيما نحن جميعا في النهاية في خندق واحد واصحاب قضية واحدة ومهنة واحدة، والسيف على الرقاب سواء.... فوجود مواثيق شرف، و(خطوط عريضة) خاصة بكل فرقة على حدة، وكل قناة اعلامية على حدة، وحتى بكل (شلة) او مجموعة على حدة، هو امر غير صحي وغير مقبول.
وثانيها: أن حاجة الجسم الصحفي الى وجود رموز ومظلات جامعة بحجم الاساتذة جمعة حماد ومحمود الكايد هذه الايام تفوق حاجته في أي وقت مضى، فاليوم نحتاج الى أب والى قامة تجمعنا وتظلنا، ونحن نرى ابناء المهنة بعضهم ينهش لحم الآخر نيئا على صفحات الصحف والمواقع؛ (وما حملة جريدة الغد الاخيرة ضد المواقع الالكترونية عنا ببعيد)؛ ونحتاجه أكثر لأننا بحاجة الى حام يحمينا ويقينا من استفراد الحكومات بالصحافة المستقلة والاسبوعية والالكترونية وعملها كل جهدها لضرب كل قلم ناقد نزيه، (والتسريبات التي تحيط بقانون الجرائم الالكترونية المزمع إقراره أكبر دليل على ذلك) وهم -وبالاخص ابو العزم- الذين كانوا يقارعون في سبيل المهنة أشد الخطوب، ويخوضون أكبر المعارك بلا وجل ولا خوف، بل هم الذين ما خافوا أبدا. وفي ظني أنه في ظل غياب مثل هذه الرموز حاليا فلا أقل من ان تكون النقابة هي هذا الرمز والمظلة.
وثالثها: كثرة ما قرأت مؤخرا من مقالات وذكريات وقصائد كتبها تلامذة الكايد وزملاؤه وأبناء الرأي الذين هم بالضرورة أبناء (ابو العزم)، ضارعين لأجله بالشفاء، لكن في ذات الوقت وكأنهم يودّعون أباهم الذي ما غاب عنهم يوما، وهي كلمات زادت في نفسي الألم والغصة، رغم علمي ان العم «أبو عزمي» ليس ممن يخافون الموت، وقد كتب أحد تلامذته فقال: إن احب الشعر الى نفس ابو العزم هو هذه الأبيات:

تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهـما ****وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
فإن حان يوماً أن يموت أبوكـما****فلا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر
وقولا هو المرء الذي لا حليـفه ****أضاع,ولا خان الصديق ولا غدر

استاذنا ابو العزم.. نتمنى من الله ان يأخذ من اعمارنا ويطيل في عمرك، ويأخذ من صحتنا ويزيد في صحتك وعافيتك.. سامح الله قلبك الذي لم يعرف التعب الا في هذا الزمن الذي احتجنا فيه الى قوّته اشد الحاجة... كم نتمنى ان تكون قويا معافى في هذه الايام السوداء لتحمينا ونستظل في ظلك الذي جمع ويجمع كل ابناء مهنة المتاعب.

(83)    هل أعجبتك المقالة (73)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي