متكئاً على عكازه الخشبي يسير الريس أحمد فارس بيك كل يوم على شاطئ الرمل الجنوبي لساعات من الوقت تستعيد فيها مخيلة العجوز حكايات عقود من الزمن قضاها بين موج البحر كأقدم صياد في محافظة اللاذقية قبل أن تثقل كاهله تسعون عاما من العمر فيتوقف قبل سنوات قليلة عن الصيد الذي يصفه بأنه أفضل ما قام به في حياته.
ويقول بيك أنه بدأ رحلته في هذه المهنة في الخامسة عشرة تقريبا، حيث كان يبحر كل صباح في مركبه الخاص من جنوب اللاذقية وصولا إلى منطقة سوكاس على شاطئ بانياس ومعه كامل عدة الصيد "الصناديق والقفف وأكياس الجنفيص وعنب الشبك والمناظير البحرية الخاصة بالغوص".
ويؤكد أن كل عودة إلى الشاطئ بعد نهار من الإبحار كانت تمثل له ولادة جديدة رغم احترافه بمرور الوقت لهذا العمل "فالمراكب آنذاك كانت بسيطة في بنائها وتجهيزاتها بخلاف ما هي عليه اليوم، والبحر قراره عميق ولا يؤمن جانبه" لكن النزول إلى الشاطئ لم يكن نهاية العمل اليومي الشاق فمن الشط إلى سوق السمك في مركز المدينة حيث الجدل الطويل مع البائعين لتصريف بضاعته.
وغالبا ما ترتبط حظوظ الصياد بأنواع السمك التي حصل عليها وتتنوع كعادتها في الساحل السوري لتشمل اللقز والقريدس والفريدة والسلطاني والجراوي والقجاج والمسقار والمرلاند والغريبة والسردين وعشرات الأنواع سواها.
يقول بيك إن أماكن الصيد في البحر كانت معروفة للصيادين فمنها ما يعرف بحرف الصنارة والضهر والجون والمحجر، أما الشاطئ الجنوبي حيث قضى عمره فهو يحفظه كما أكد عن ظهر قلب إذ أن أكثر أسماكه كانت ولا زالت تتجمع في كل من "جورة العبيد" و "جورة حسن" و"جورة المقيطعة".
وكان موسم الصيد يتطلب من الصياد جهدا مضاعفا ليعوض من خلاله عن قلة الرزق في الشتاء حيث يلتزم الصيادون الشاطئ لاسيما خلال شهري شباط وآذار عندما يحدث النو فتعصف الرياح ويرتفع الموج ليرسو السمك إلى القاع ويستحيل صيده .
ومن الأحداث المثيرة التي تستحضرها ذاكرة بيك ذلك اليوم عندما قرر ورفاقه التوقف في عرض البحر لإعداد بعض الشاي على حافة ما ظنوا أنه صخرة سوداء كبيرة يعلوها شيء من أعشاب البحر ليفاجؤوا بعد دقائق بالصخرة تتحرك ببطء فإذ بها عجل بحر ضخم فما كان منهم إلا أن هلعوا و سارعوا بالابتعاد يشدهم الذهول من هول الصدمة.
ويقول بيك "أعطيت عمري بأكمله للبحر وهو بدوره أعطاني الكثير وعلمني أن باب الرزق مفتوح دائما لكن الوصول إليه يحتاج إلى عمل وصبر و إيمان، ورغم توقفي عن الصيد قبل سنوات إلا أنني لا زلت أهرع إلى الشاطئ كل صباح للتنزه ومجالسة الصيادين وتنشق الهواء الذي أمدني بالعمر حتى هذا اليوم".
وذكر محمد علي حسينو شيخ بائعي السمك في اللاذقية الذي بدأ بمزاولة هذه المهنة قبل ستين عاما أن البائعين آنذاك كانوا يفترشون الأرض ببضاعتهم كل على بسطة خاصة به فلم يكن عددهم يومئذ يتجاوز العشرين في بازار السمك القديم الذي كان يغص كل ظهيرة بالزبائن من أبناء المدينة والقرى المجاورة لها إلى جانب المسافرين الذين كانوا يقبلون عليه بكثافة نظرا لمجاورته لكراج البلدية الذي تنطلق منه البوسطات بكل اتجاه.
وكانت عملية البيع آنذاك تبدأ بعد أن ينتهي المزاد اليومي بين البائعين والصيادين فيحصل كل على البضاعة التي يريد لتبدأ مرحلة أخرى من البازار مع المشترين وكانت هذه العملية تخضع بطبيعة الحال إلى كثير من التفاوض نظرا لوفرة السمك وتعدد أصنافه.
وروى حسينو أن الإقبال على شراء السمك في ذلك الوقت كان يعادل عشرة أضعافه اليوم نظرا لاعتدال ثمنه حينذاك فكان سعر الكيلو من سمك اللقز أوالسلطاني مثلا كأفضل أنواع السمك لا يتجاوز 75 قرشا في موسم الصيد وليرة ونصفا على أعلى تقدير خارج الموسم أما الآن فيصل سعر الكيلو من الأنواع ذاتها إلى ما يزيد على ألفي ليرة سورية.
ويقول حسينو إن التجار في ذلك الحين كانوا يقومون بإرسال السمك الفائض إلى دمشق و لبنان بعد تغليفه جيدا بالثلج ووضعه في صناديق خشبية، مشيرا إلى أن جودة السمك اللاذقاني تتأتى من خصوبة تربة قاع البحر والطمي الذي تقذفه الأنهار فيه على حد سواء ما يمده بطعمه الدسم و نكهتة الخاصة .
وتعتبر العبارات التي كان يصيح بها باعة السمك في ذلك الحين من أجمل طقوس السوق و أكثرها فاعلية في جلب الزبائن فكان كل يصيح أمام بسطته "عجو المشمش يا سردين" أو "تعولي تعولي السلطاني بليرة" أو "قلامي قلامي يا سردين" .
ويؤكد حسينو أن سوق السمك تراجعت اليوم إلى حد كبير بسبب كثرة التجار وانخفاض كميات السمك بفعل الصيد الجائر إضافة إلى ارتفاع أسعاره وانتشار الأنواع المجمدة منه في الأسواق بأثمان زهيدة للغاية مقارنة بالسمك البلدي.
ويقول محمد جميل وهو واحد من أقدم باعة السمك الجوالين في اللاذقية أنه اعتاد على مدى خمسة وأربعين عاما على التجول بقفة قشية مملؤة بالسمك إضافة إلى عصا من الخيزران ذات كفتين جانبيتين وبعض الحجارة الموزونة سابقا ليبيع السمك إلى من يصعب عليه الوصول إلى البازار.
ويضيف أن قفته كانت تتسع لثلاثين كيلو من السمك يحملها على ظهره طوال النهار فما أن ينتهي من بيعها حتى يعود إلى السوق ليملأها من جديد.
و كانت أكثر الأنواع مبيعا بالنسبة للجوالة هي الأسماك متوسطة السعر كالمرمور والجروش والبراق والبوري مختتما أن أنواعا جديدة من السمك أخذت تظهر في البحر خلال السنوات الأخيرة كالغسانة والشيطانة والسرغوس المقلم بالأصفر كما أن أصنافا أخرى صارت أكثر ندرة كسمك المسقار والمرلاند.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية