مرت حادثة موت الطفل محمد طلال الرواس كغيرها من الحوادث في سوريا حيث لا وقت لترف الكلام فالموت حاضرأبدا، وما على الناس هناك سوى ترديد عبارات الترحم والعزاء، ومواساة الأب المكلوم بزوجته سابقاً، والدعاء له بالصبر على الفقدان والفقر.
مات الطفل في عجانة فرن الحي بكل بساطة حيث لا يمكن لطفل أن يموت هنا إلآ إذا كان سوريًا في زمن البعث، وكان عادياً أن يسقط من أرجوحة شاهقة أو تدهسه سيارة ابن مسؤول مسرعة أو شبيح أرعن. لكنها سوريا التي يضطر فيها الأب لاصطحاب ابنه إلى مكان عمله - بينما رواية مدير السورية للمخابز تقول بأن الأب كان في زيارة صديق له يعمل في الفرن- وهي سوريا التي لا يجد فيها الطفل مكاناً آمناً لينجو فيه من لعنة الموت على هيئة رغيف دموي.
لم يمت محمد وحده..كل السوريين مروا من هنا، ولم ينجُ منهم أحد طوال خمسين عاماً من سطوة سلطة القهر، وحتى أولئك القتلة والشبيحة واللصوص والفاسدين مروا من تلك العجانة الكبيرة التي أوصلت سوريا إلى ما هي عليه. سلطة البعث التي عملت حتى الآن بجد على صناعة المقهورين والفقراء والأذلاء، وتحت شعارات فضائية عن أعداء البلاد المزعومين المتربصين بحياض الوطن وحدوده، وعن صغار الكسبة المقدسين الذين يجوعون من أجل حياة الوطن، وأغاني العمال التي تتردد فقط في برامح تلفزيون الطغمة الحاكمة فيما تتضخم ثروات قادة الطبقة العاملة وتضمر بطون العاملين وأبنائهم.
عجانة الطلائع والشبيبة والحزب التي التهمت اجيالاً من السوريين تحت ذريعة المقاومة والتحرير والصمود، وعند أول مقاومة للجوع والإذلال تحول الرعاع الأتباع إلى قتلة ووحوش لحماية الكرسي الوحيد في قصر المهاجرين حيث لا معنى لأوهام التغيير والحرية..هنا فقط ينمو التسلط باسم السيادة، والقتل باسم الدفاع عن المؤامرات الخارجية، والذبح للطائفيين، والموت للمندسين والعملاء حتى لو كانوا شعباً بأكمله.
العجانة نفسها صنعت إعلاميين قتلة دعوا بكل صفاقة لقتل السوريين، وإبادة مدنهم وقراهم، وآخرون قبضوا أثمان ولائهم للممول والدول الخارجية باسم الثورة وضدها، وناشطون بنوا دكاكين تكرس الرداءة والعفن، ومساكين يبحثون عن فرصة عمل في المدن الغريبة الجديدة.
ساسة لم يخرجوا من مدرسة البعث بعد عشر سنوات من الخروج على سلطته فبنوا مؤسسات على غرار مؤسساته، ومنابر كمنابره، وفصائل تحميهم، وصغاراً يسبحون باسمهم.. حيث لا صوت يعلو فوق صوتهم، ولا رأي فوق رأيهم، ومريدين يهللون لهم ويشبحون على من خالفهم، وتهم معلبة وجاهزة، ورصاص ميداني، وشيوخ قضاء، وسلاح انتقام وعدالة.
مت يا محمد الرواس في عجانتك بهدوء الولد فنحن ما زلنا نموت بعجانة منذ خمسين عاماً ولم نمت، ومع كل صباح من هذا النزيف المديد نحلم بما يشبه موتك..صرخة مدوية ثم جسد مسالم ينتفض انتفاضته الأخيرة. يا محمد.. هذا الصمت الطويل أقسى من صرختك قبل الوداع فمتى يصرخون؟.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية