"الأمة العظيمة هي التي تكرم عظماءها"، هذا تصريح أحد المسؤولين السوريين منذ يومين... ومن جهتي فأنا أؤيدها هذه المقولة وبشدة، وأنظر ملياً إلى تاريخ بلادنا، ليس التاريخ البعيد، سأكتفي فقط بتاريخ سوريا الحديث والمعاصر، فمن هم عظماؤنا الذين لا بد أن نكرمهم؟ من نعرف منهم؟ من كرمنا منهم؟
عودوا معي إلى فترة الاستقلال وبداية سوريا الدولة الوليدة، الغنية بالحراك السياسي، والتي استطاعت أن تغرس بذوراً حقيقية لديمقراطية وُئدت باكراً... في هذه الفترة يبرز فارس الخوري بطل الاستقلال الحقيقي والذي ناضل وبقي مطالباً باستقلال كامل وغير مشروط من دون أي معاهدة مع فرنسا حتى تحقق ذلك، ثم استمر في عمله السياسي في بناء لبنة سياسية سورية، بين رئاسة الوزراء أو تولي الوزارات المتعددة.
من ولد في الاستقلال بلغ عمره اليوم عتيا، ولم يبق الكثير ممن عاشوا في تقلبات سوريا السياسية وتحولاتها الاجتماعية، أما نحن فمعظمنا ولدنا في عهد "الأب القائد"، وأولادنا ولدوا في عهد "الابن القائد"، لم نعرف من تاريخ سوريا إلا ما رسخته مناهج البعث، وأولادنا أيضاً ما عرفوا من سوريا، سوى سوريا التصحيح، والصمود والتصدي، وبطل التشرينين، وما عرفناه لاحقاً عن تاريخ بلدنا كان جهداً واجتهادً شخصياً.
لكن جل السوريين ماذا يعرفون عن القامات السورية التي صنعت تاريخها؟
في بداية سنواتي الجامعية الأولى أذكر الزميلة القادمة من إحدى المحافظات السورية، عندما مررنا بشارع "العابد" استهجنت الاسم واعتبرت أن الشارع لا بد سمي باسم أحد التقاة المتعبدين، ما أصابني بدهشة وحزن معاً، كيف لطالبة جامعية اجتازت الثانوية بالتأكيد بتفوق حتى استطاعت دخول فرع يحتاج لأعلى العلامات في الفرع الأدبي، ولا تعرف بأن "العابد" هو أول شخص تولى رئاسة البلاد بشكل منتخب تحت سلطة الانتداب الفرنسي وهو "محمد علي العابد"، نعم منتخب، وديمقراطياً رئيساً لسوريا وسُمي الشارع باسمه.
من يذكر اليوم رؤساء سوريا الذين دثر البعث ذكرهم عامداً متعمداً، فلا نذكر منهم إلا ما حفظنا اسمه بالصدفة، في حين يعرف أولادنا أسماء رؤساء أمريكا السابقين، في مفارقة لا ذنب لأحد فيها، سوى لمن لم ينفذ مقولته السابقة بأن الأمم العظيمة تكرم عظماءها، هذا إذا اعتبرنا الشخصيات السياسية عظيمة فقط لأنها سياسية، فالعظمة أن تقدم لبلدك قيمة مضافة في تاريخه وحضارته وبنائه.
كل دول العالم تكرم مبدعيها ليس فقط بتسمية الشوارع والمسارح والساحات باسمهم، بل بتخليدهم في الذاكرة الجمعية لشعوبها، بالارتقاء بأجيالها عبر الاحتذاء بهم، بجعلهم قدوة في مجالاتهم، بتكريس خُلقهم، ونتاجهم الفكري، الأدبي، العلمي، الفني، السياسي، والوطني أيضاً، وبهذا يتم تكريمهم... وبتخليد هؤلاء ترتقي الأمم وتحفظ الجميل لمن ساهم في إغناء تاريخ البلاد.
زرت في حياتي العديد من الدول وسافرت لأكثر من عشرين دولة عربية وأوروبية، وعشت في طفولتي في ألمانيا الغربية قبل أن تتوحد الألمانيتين، ومنذ عشر سنوات أقمت بين السويد وإيطاليا واستقريت في فرنسا، ولم أجد في أي من هذه الدول أي متحف، لأي شخصية غير اعتبارية أو لمجرد انتمائها بحكم الدم لحاكم أو زعيم أو حتى ملك، بل كنت وما زلت من هواة ارتياد المتاحف، وفي كل مدينة كنت أعرف عراقتها من متاحفها، في استوكهولم مثلاً كانت روعة متحف جائزة نوبل تضعك وجهاً لوجه مع عظماء العلماء والمبدعين في العالم أجمع منذ تأسيس الجائزة حتى اليوم، وفي المتحف الأولمبي في لوزان ستصبح شغوفاً بتاريخ الألعاب الأولمبية، في كوبنهاغن تغوص في تاريخ البلاد وما قبل التاريخ أيضاً في المتحف الوطني الضخم، ناهيك عن متاحف الفن والموسيقى المنتشرة في كل أوروبا تقريباً، في إيطاليا حدث ولا حرج فالبلاد كلها متحف مفتوح لكن لمتاحفها نكهة أخرى، متحف للطب، ومتحف للسينما، ومتحف للعلوم، ومتاحف متخصصة بنتاج وأبحاث ومخطوطات العبقري ليوناردو دافنشي، ولن أتكلم عن اللوفر في باريس، أو عن متاحف التاريخ الطبيعي، ومتاحف العلوم المختلفة، حتى المدارس لها متاحف متخصصه تعرض كيف بدأت المدارس وكيف نشأت وتطورت وماذا كانت تستخدم وما إلى ذلك، فيكون المتحف ملخصاً ومختصر عن تاريخ طويل.
اليوم في بلادنا نمشي سريعاً بالانحدار نحو القاع في كل شيء، فيصبح علي الديك رمزاً للأغنية السورية ويُنسى صباح فخري، ويكرم دريد لحام وينسى أبو زكي كورديللو، ويكرس نضال الصالح رئيس اتحاد الكتاب العرب كمبدع وأديب وينسى محمد الماغوط، لنكتشف أننا أمةً لا تكرم سوى أبواقها، فمن الطبيعي جداً أن يكون لهذا الإسفاف متحفاً، وليمت السوريون بجوعهم ووجعهم.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية