*وثيقة رسمية تدين مواقف "ماكرون" الحالية مازالت موجودة على موقع "الإليزيه" (شاهدها واقرأ نصها)
*هناك نقد عام لتوجهات "ماكرون"، أحدهما علني واضح، والآخر ضمني، وكلاهما يصبان في تفنيد مواقفه وتفسيراته
قد يخيل لغير الملاحقين لوسائل الإعلام المحلية هنا، أن صوت الفرنسيين، بمن فيهم كبار الساسة، موحد ومندمج تماما مع صوت "إيمانويل ماكرون" فيما يخص إصرار الأخير على إلصاق صفة "الإسلامي" بمعظم الأعمال الإرهابية، وفيما يخص أيضا اعتبار الإساءة للإسلام حرية تعبير، تجسد "قيم الجمهورية".
ولكن الأمر مختلف عن التصور المذكور أعلاه تماما، فهناك في فرنسا عدد غير قليل من الأصوات ضمن الطبقة السياسية الأولى، تختلف مع "ماكرون" في توجهه، بل وتشنع عليه مذهبه في "التقديس المطلق" لحرية التعبير، حتى ولو أدت لإهانة الآخر والافتراء عليه ورميه بتهم جاهزة ومعلبة، والنيل من صميم معتقده.
وسنأخذ من هذه الأصوات المعارضة، التي حشرت "ماكرون" في الزاوية و"جردته" من حججه المتهافتة.. سنأخذ رأيين لرئيسين سبقا "ماكرون" إلى قصر الإليزيه وتربعا على هرم السلطة والقرار في "الجمهورية"، وهما: الرئيس السابق تماما لـ"ماكرون"، فرانسوا أولاند، والرئيس "جاك شيراك" الذي حكم فرنسا لمدة 12 عاما متوالية، وخط في سياستها معالم ما تزال ماثلة حتى اليوم.
أما "أولاند" الذي أنهى ولايته عام 2017، فقد أعرب وبشكل علني وصريح، أنه ينبغي أن "لا نخلط بين الإرهابيين والمسلمين، لأن هذا سيكون خطأ يستدرجنا للدخول في صراع بين الأديان، وهذا هو الصراع الذي لا نريد أن نفتح بابه".
*لامجال لمتأول أو متقول
وأما جاك "شيراك"، ورغم أنه توفي خريف العام الماضي، فإن له بيانا ما يزال يصلح حتى اليوم للرد على "ماكرون" وبقوة لا يمكن تخيلها، أولا لأن هذا الرد جاء في صيغة بيان رسمي عن "شيراك" عندما كان رئيسا لفرنسا، أي إنه كان على هرم السلطة وليس خارجها كما هو "أولاند" حاليا، وثانيا وهو الأهم أن بيان "شيراك" ناقش نفس الحالة التي يواجهها "ماكرون" في الوقت الراهن، وهي قضية الرسوم الافترائية، ليثبت أن "ماكرون" يعالجها بطريقة تمثل فهما معكوسا، بل وانقلابا على قيم الجمهورية.
ففي 2006، وبينما كان "شيراك" في سدة الحكم، اندلعت أزمة حادة ومشابهة للوضع الحالي، عندما انبرت صحيفة أسبوعية فرنسية (نفس الصحيفة الحالية) لنشر صور افترائية على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقابلها غضب واسع في صفوف الشعوب المسلمة المنتشرة في مختلف بقاع العالم.
يومها اختار "شيراك" الحديث بصوت متعقل للغاية وبكلمات واضحة لا تقبل اللبس، مبينا للفرنسيين قبل الآخرين معنى إحدى "قيم الجمهورية"، بوصفه القيّم على صيانة هذه القيم وتطبيقها، وبوصفه المدرك لجوهرها كسياسي محنك، خدم في الكثير من المناصب الحساسة وليس فقط موقع الرئاسة (عمدة للعاصمة باريس، وزيرا للداخلية، رئيسا للوزراء...)، فضلا عن بقائه عضوا في المجلس الدستوري الفرنسي حتى مماته في أيلول 2019 (احتفظ بعضويته فيه أكثر من 12 سنة متلاحقة)، واسم "المجلس الدستوري" غني عن شرح وظيفته في حماية الدستور.
بيان "شيراك" الذي ما يزال للمفارقة وفق ما تأكدت "زمان الوصل"، موجودا على موقع "الإليزيه"، يقول فيه الرئيس وفق ترجمتنا الحرفية له: "بيان من جاك شيراك، رئيس الجمهورية، بشأن حرية الصحافة واحترام المعتقدات الدينية، على خلفية قضية الرسوم الكاريكاتورية للنبي محمد، 8 شباط/ فبراير 2006:
فيما يتعلق بمسألة الرسوم الكاريكاتورية وردود الفعل التي تثيرها في العالم الإسلامي، أذكّر أنه إذا كانت حرية التعبير من أسس الجمهورية، فإنها أيضا تقوم على نهج التسامح واحترام جميع المعتقدات.
أي شيء يمكن أن يضر بمعتقدات الآخرين، وخاصة المعتقدات الدينية، يجب أن يتم تجنبه. يجب ممارسة حرية التعبير بروح المسؤولية. أنا أدين كل الاستفزازات الفاقعة والمثيرة للغضب، التي تسعر المشاعر بشكل خطير.
كما أدين كل أعمال العنف التي تُرتكب ضد المواطنين أو ممثلينا في الخارج، في أي مكان في العالم، وأذكّر أنه ووفقا للقانون الدولي، فإن الحكومات مسؤولة عن سلامة الأشخاص والممتلكات الأجنبية فوق أراضيها.
علاوة على ذلك، أطلب من الحكومة (الفرنسية) أن تكون يقظة بشكل خاص بشأن أمن مواطنينا في الخارج".
ويكتسب بيان "شيراك" قوته في محاججة "ماكرون"، من وضوح كلمات التصريح، ومن اعتباره مرجعا حاكما، لاسيما أنه وثيقة رسمية مدرجة في محفوظات "الإليزيه"، وهو أيضا صادر عن أعلى سلطة في البلاد، ومختص بنفس القضية ونفس الصحيفة، بما لايدع مجال لمتأول أو متقول، من أن الحكم يجب أن يختلف باختلاف الحالة.
*تفنيد خفي
مستاؤون من مواقف "ماكرون" يستدلون اليوم ببيان "شيراك"، بل ويرون أن الرجل لو كان حيا لما تأخر في الرد على الرئيس الحالي، ولما تردد في الإدلاء بنفس التصريح، الذي يدين الاعتداء على معتقدات الآخرين، ويضبط حرية التعبير بالتسامح والحرص على عدم الإساءة وبث روح الكراهية والتفرقة، وقد تجاوز "ماكرون" كل ذلك وداس على "القيم الجمهورية" ولوى عنق "حرية التعبير" إلى حد كسر هذه العنق، دون أن يكلف نفسه مراجعة "الإرث" الذي تركه له رؤساء سابقون.
وإذا كانت تصريحات "أولاند" وبيان "شيراك" تمثل تفنيدا جليا ولا لبس فيه لمواقف "ماكرون"، فإن هناك تفنيدات "مخفية" يحاول أعضاء الحكومة الحاليين أن يرسلوا من خلالها رسائل تقول إنهم ليسوا على اتفاق تام فيما يقوله ويتصرفه رأس الدولة.
ففي خطابه الخاص بتوضيح تعليمات وأسس الموجة الثانية من "الحجر" الصحي في البلاد، ورغم أن الخطاب تزامن مع اعتداء "نيس" الذي نفذه مهاجر تونسي وراح ضحيته 3 أشخاص، فإن رئيس الحكومة "جان كاستكس" لم يذكر في كل خطابه كلمة إسلام ولا إسلامي، مع أن فاتحة الخطاب كانت تنديدا صريحا بالهجوم الإرهابي في نيس.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن "كاستكس" هو الرجل الثاني في الدولة، وأن كلماته لابد أن تكون منتقاة بعناية شديدة لاسيما في ظرف عصيب وفي ظل اعتداء بشع لم يمض عليه سوى ساعات يومها (اعتداء نيس)، فإننا ندرك أن تجنب رئيس الحكومة لكلمة إسلام أو إسلامي، جاء مقصودا، ومقصودا جدا، وخلاصته تجنب خط "ماكرون" الذي يصب الزيت على النار، ويصر على توصيف الإرهاب بأنه "إسلامي"، رغم أن مسلمي فرنسا وجمعياتهم تدين وتتبرأ منذ عقود من أي عمل عنفي يلحق الضرر بالأبرياء، ويعطي الفرصة للمتصيدين كي يمعنوا في تشويه صورة الإسلام.
*اعتذار ضمني
ولم يكن "كاستكس" هو الوحيد من الحكومة الفرنسية، الذي خالف "ماكرون" بشكل خفي، فقد جاء إلى جانبه رأس الدبلوماسية، وزير الخارجية "جيف إيف لودريان"، الذي بعث بـ"رسالة سلام إلى العالم الإسلامي"، مؤكدا أن بلاده تهتدي بثقافة "التسامح" وليس ثقافة "الازدراء والرفض".
رسالة "لودريان" جاءت لافتة في توقيتها ومكانها وكلماتها، أما توقيتها فقد أتت في نفس اليوم الذي شهد اعتداء نيس (الخميس 29 الجاري)، وأما مكانها فقد وردت على لسان وزير الخارجية أثناء كلمة له في البرلمان (الجمعية الوطنية)، أي إنها جاء بمثابة توجيه رسمي يحدد خطوط التعامل مع القضية ويحصرها، ولم تكن مجرد تصريح عابر.
وفيما يخص كلمات التصريح فقد كانت "عبارات منتقاة" بكل معنى الكلمة، هدفها الإيحاء بالابتعاد عن النهج التصعيدي لـ"ماكرون" وتقديم رسالة اعتذار ضمنية (غير صريحة مئة بالمئة) عما سبق للرئيس الفرنسي أن تفوه أو قام به فيما يخص قضية الرسوم الافترائية وتداعياتها، وفيما يخص وصم الإرهاب بصفة "الإسلامي".
ففضلا عن تحذيره من الوقوع ضحية "المتلاعبين" ومثيري "الفتنة"، أكد "لودريان" أمام أعضاء البرلمان أن "الدين والثقافة الإسلامية جزء من تاريخنا الفرنسي والأوروبي، ونحن نحترم الإسلام"، مشددا في موضع آخر أن "المسلمين ينتمون بشكل تلقائي إلى مجتمعنا الوطني"، وأن حريتهم في ممارسة عباداتهم مضمونة.
زمان الوصل - باريس - خاص
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية