(إذا دخلت الدبابات الرستن فاعلموا أنني قد استشهدت)، عبارةٌ تحملُ نبوءَةً ووعداً وهدفاً وحلماً، لا ينطقُ بها إلا رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، أطلقها أحمد الخلف، الرجلُ الذي سارَ وراء حلمه إلى أن التقى به على أرض الواقع. فما حكاية ذاك الحلم وذاك الحالم.
*قبل الحلم بصحوة:
في بيتٍ ريفي بسيط في بلدة الرستن تزنرّت صبيحة الرابع عشر من شهر آب أغسطس من عام 1983 بفرحة الأهل لبكاء وليدٍ أطلَّ على هذا العالم ما تلبث أن تبكيه الملايينُ بعد حينٍ من الدهر. في أسرةٍ مكافحةٍ وُلِدَ لأبٍ فلاحٍ تآخى مع الأرض والماء والشمس، فأتقنَ الأملَ وصبرَ الفصولِ على بذرةٍ في الأرض حتى تثمر، ولأمٍّ استوطنت الطيبة والعفويةُ والعزةُ في ملامحها.
بين أرضِ أبيه ونهر العاصي ومقاعد الدراسة نشأ وترعرع أحمد مصطفى الخلف الذي لطالما كان يأخذ دور المقاتل الذي يستشهد في الحرب دفاعاً عن وطنه أثناء لعبه مع أقرانه في أزقة بلدته.
درس في مدارس الرستن، وحين نال شهادة الثانوية العامة انتسب إلى الكلية الحربية في حمص، وتخرج منها برتبة ملازم باختصاص مشاة (قوات خاصة) وهي من قوات النخبة في الجيش العربي السوري، وأبرز تفوقاً على أقرانه في الشجاعة والإقدام وفنون القتال وكان قناصاً ماهراً لا يُضاهى.
*إنْ هو إلا حلمٌ يُوحى:
حينَ اندلعت الثورة السورية ربيع 2011 في درعا كان أحمد الخلف برتبة ملازم أول في الكتيبة الأولى التابعة للفرقة 15 العاملة في السويداء جارة مهد الثورة، كانت تأتيه الأخبار عن كيفية تعامل قوات الأمن والجيش مع المتظاهرين بالعنف والنار، حتى صدرت إليه الأوامر 7ـ06-2011 من قادته بالتوجه إلى درعا للقضاء على "عصابات إرهابية مسلحة تروع وتقتل الأهالي وتخرب الممتلكات العامة والخاصة"، كما كان يروج الإعلام الأسدي وضباط التوجيه السياسي في القطعات العسكرية، وهناك في حي "العباسية" أدرك الحقيقة عاريةً، فإن كان في عري الجسومِ قباحةً فأحسن شيء قي الحقيقة أن تعرّى، لم يرَ عصابات مسلحة ولا إرهابيين، كانت جموعا غفيرة من من أهل وطنه يتظاهرون بشكل سلمي، يحملون أعلام الوطن، وكان سلاحهم الورود، وصيحات ولافتات تنادي بالحرية والكرامة فأعطى أوامره لجنوده بعدم إطلاق النار على شعبه.
وأدرك أنَّ أفراد الجيش السوري الذين يتغنى بهم ملايين السوريين في النشيد الوطني بأنهم حُماة الديار قد تحولوا إلى حُماة بشار، فانحاز لشعبه الذي أقسم على حمايته عند تخرجه من الكلية العسكرية وانشق هو ومجموعة من جنوده ودخل إلى الأردن الشقيق وأدى له الجندي الأردني الذي كان باستقباله التحية كما تقضي الأصول العسكرية.
*رجل يلتقي بحلمه:
لم تطل إقامته في الأردن فعاد إلى سوريا بعد أسبوعين لأن حلماً كان بانتظاره عليه أن يسعى إلى لقائه، ثم أمّن له ثوّار درعا الوصول إلى بلدته الرستن وانضم إلى كتيبة "خالد بن الوليد" أولى كتائب الجيش الحر حينها، باع مصاغ زوجته بسبعين ألف ليرة سورية وكان ينقصه مثلها لاقتناء قناصة وتحقيق هدفه، فلم تفِ إلا لشراء بارودة كلاشينكوف في ذلك الزمن الجميل والنظيف من عمر الثورة قبل أن يلوثها دعم الداعمين ومصالحهم.
في بلدته لم يخلد الخلف للراحة بل تابع مشواره النضالي، وعندما قام مع ثوار الرستن بطرد كل القوى الأمنية منها وتحريرها، جنّ جنون النظام فحشد له قوات ضخمة مدعومة بالدبابات لاستعادتها.
وهناك ومن المدخل الشرقي للرستن الذي تولى الدفاع عنه تمكنت دبابات الأسد من دخول البلدة بعد مقاومة عنيفة وصمود ليومين متتاليين من الملازم أول أحمد الخلف ورفاقه بسلاحهم الخفيف فعلم أهالي الرستن أنه قد استشهد، وأنه أوفى بوعده، ليلتقي بذلك مع حلمه بتاريخ 28/9/2011 الذي سار إليه حتى أرض الرستن.
ترك خبر استشهاده حزناً عميقاً في نفوس السوريين الأحرار على امتداد الوطن وبكاه الرجال والنساء على حد سواء.
*ما لم يأت في الحلم:
لم يمهل البطل أحمد الخلف الحلم شهراً آخر ليكحل عيناه برؤية ابنه عمر، فقد كان مستعجلا ً للقاء حلمه بالاستشهاد، فجاء الوليد عمر إلى هذه الدنيا يتيماً، لكنه يحمل فخراً سيظل رافعاً رأسه به طوال حياته: إنه ابن الشهيد، لكن أخته هدى ذات الأربع سنوات حرمتها قذائف الأسد هذا الفخر لتعانق روحها روحَ أبيها عند سدرة الشهادة.
أحمد الخلف... رجل يلتقي حلمه
سليمان النحيلي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية