بعد ثلاث سنوات من الجهد العلمي والبحث المعمق نال الباحث الياباني "إيتشيكو يامادا" درجة الماجستير من جامعة طوكيو في تخصص دراسات الإبادة الجماعية عن أطروحة بعنوان (دراسة حول آلية الإبادة الجماعية في إطار المفهوم الأوسع - قضية أعمال الإبادة ضد المدنيين في الحرب السورية) التي يحاول من خلالها أن يوثق التاريخ بطريقة أكاديمية، ويثبت أن ما يجري في سوريا من جرائم لنظام الأسد هو إبادة جماعية بالوقائع والوثائق الدامغة.
وتعود علاقة "إيتشيكو" بالثورة السورية إلى بداية اندلاعها عام 2011 عندما كان لا يزال طالباً في المرحلة الثانوية، وحينها صُدم عندما شاهد السوريين على شاشات التلفاز في فرنسا، وخاصة الشباب منهم، وهم يخاطرون بحياتهم للمطالبة بحقوق الإنسان الأساسية التي كان يتمتع بها، وتساءل كما يروي لـ"زمان الوصل" عن تلك الشجاعة التي تميزهم:"يالها من شجاعة..ما زلت أتذكر الوجوه الشابة بفرح وخوف. قُتل معظمهم للأسف الآن".
وأردف أنه لم يكن يعرف الكثير عن سوريا قبل الثورة لسوء الحظ، بينما الكثير من اليابانيين كان قد تم غسل أدمغتهم بواسطة دعاية النظام السوري المضللة والاستشراق.
لكن سوريا بالنسبة له كانت تعني كل شيء عن الشعب السوري الذي يطالب بشجاعة بالحرية في الشوارع، لا الصور المضللة التي يروجها نظام الأسد لسوريا.
وتابع محدثنا أن تلك اللحظة جعلت الثورة السورية جزءاً من حياته ولا تزال بعد أكثر من 9 سنوات.
وروى الباحث الياباني أنه لم يكن يعرف مالذي يمكن فعله من أجل السوريين إذ كان صغيراً ومشغولاً بحياته الخاصة.
غير أن نقطة التحول في علاقة "يامادا" بالثورة السورية كانت –حسب قوله –عندما شاهد فيلماً عن "الساروت" غيّر حياته للأبد حيث بدا "الساروت"، وكأنه يصيح به: "أخي، هل ما زلت تتجاهل صراخنا!؟".
وبدأ على الفور في تنظيم أول حدث عام له في سوريا وقام عام 2017 بتأسيس منظمة اليابان -قف مع سوريا Stand with Syria Japan-SSJ".
وحول فكرة دراسته لنيل درجة الماجستير أشار "يامادا" إلى أنه أراد من خلال بحثه الأكاديمي هذا تكريم الشهداء ودعم الناجين من المذبحة في سوريا بكل الطرق الممكنة، ولأنه كان بالفعل ناشطاً في دعم السوريين بطرق إنسانية شتى رأى أن يدعمهم من الناحية الأكاديمية أيضاً ولطالما سمع من النشطاء والصحفيين والمسعفين السوريين عن قصص السجن والتعذيب والاختفاء القسري في أقبية نظام الأسد بشكل يومي وبعد تهريب صور قيصر توضحت الصورة أكثر.
وأدرك -كما يقول- أن سجون الأسد مختلفة عما رآه في بلدان أخرى، وتابع أن البحث الأكاديمي حول هذا الموضوع والسجون والتعذيب كان محدوداً على الرغم من وجود الكثير من التقارير الحقوقية الهامة، وهذا ما جعله يتجه للتخصص في دراسات الإبادة الجماعية، وبعد ثلاث سنوات من البحث والتقصي في هذا المجال المروع من البحث قدم أطروحته للماجستير التي تبلغ 184 صفحة وجاءت بعنوان "دراسة حول آلية الإبادة الجماعية ضمن المفهوم الأوسع: قضية أعمال الإبادة ضد المدنيين في الثورة السورية".
ولفت الناشط الياباني إلى أنه اعتمد كثيراً على التقارير المكتوبة من قبل الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان. بالإضافة إلى صور قيصر، وحقق –كما يقول- في التصريحات العلنية لكبار الشخصيات في نظام الأسد، مستعيناً بالأبحاث السابقة في دراسات الإبادة الجماعية لتحليل أدلة الحقائق.
وكشف أنه استثمر معظم الوقت في جمع التاريخ والشهادات الشفوية من عوائل الشهداء والناجين من سجون الأسد، فلا يوجد شيء أقوى وأكثر دقة من الشهادات الحية، حسب قوله.
ولم يخفِ الناشط الياباني وجود صعوبات اعترضت رحلة بحثه ومنها صعوبة التعامل مع المقابلات التي تفتح جروحاً عميقة لهم، وهو أمر لا يمكن تخيله بسهولة "فبعض الضحايا انهاروا أمامه وهم يشرحون كيف تعرضوا للتعذيب، وكيف شهد بعضهم موت أصدقاء لهم في نفس الزنزانة، وتكلم بعضهم الآخر بخجل كيف تعرضوا للإيذاء الجنسي وكيف تم اقتياد أسرهم".
وكشف المصدر أنه أجرى مقابلات مع أكثر من 30 شخصاً من الناجين والأسر السورية، ولكن هناك العديد من الحالات التي قررت عدم مواصلة مقابلته، مضيفاً أنه تأثر كثيراً على الرغم من أنه من ذوي الخبرة في أخذ الشهادات.
وعقب كل مقابلة كان يجد نفسه في حالة من اليأس المروّع والتساؤل عن الخط الرفيع بين الحياة والموت، ولا تزال هذه الحالة ترافقه حتى الآن، ولكنها جعلته فخوراً لأنه تعلم من الشهداء والناجين والأهالي قيمة الحياة، وكيف يكون العيش بكرامة أمراً ثميناً، كما جعله هذا البحث -حسب قوله- في حالة أقوى لمواصلة واجبه تجاه السوريين، والمساهمة في تحقيق العدالة لهم.
ولفت الباحث الذي يقيم في ألمانيا إلى أن ما يجري في سوريا وخاصة في السجون هو حدث بارز في القرن الحادي والعشرين، وعنف مُطلق بقصد تدمير مجموعات معينة بأكملها أو جزءاً منها مشيراً إلى أن الاعتقالات التي ينفذها النظام هي بمثابة آلة إبادة.
ويمكن تصنيف التعذيب المؤكد في الاعتقالات إلى 4 فئات وهي تعذيب جسدي، تعذيب نفسي، تعذيب بيئي، والأهم من ذلك، مراقبة الجثث بالأرقام والصور. وطرق التعذيب الأربعة هذه حدثت بالتأكيد في زنزانات النظام لكنها انتهكت عائلاتهم وأحبائهم وأصدقائهم والمجتمع بأسره.
وعبّر محدثنا عن اعتقاده بأن صمت العالم التام حيال ما يجري في سوريا من إبادة جماعية للشعب السوري هو الشكل الأخير لفساد إنسانيتنا، مضيفاً أن هناك العديد من الأسباب التي تجعل الناس يلتزمون الصمت، لكن يجب الإشارة إلى أن المشكلة الأكبر هي فكرة وموقف الناس الذين يرون ما يجري في سوريا على أنه "حرب أهلية" لا كثورة، نظراً لأن هناك أطرافاً كثيرة تقاتل في سوريا، وأبان إيتشيكو أن البعض يستخدم "الحياد" للهروب من مواجهة الواقع في كل مرة يحدث فيها شيء مروع في سوريا ويصمت الناس فمقولة "أنا محايد" أسهل وأكثر راحة لديهم للأسف من الوقوف إلى جانب "العدالة".
وختم الباحث الياباني معرباً عن أمله بأن يكون جهده العلمي هذا وسيلة لفهم ما يجري في سوريا والشعور بجزء من معاناة السوريين.
وأن يكون أيضاً شاهداً على التاريخ السوري، تاريخ السوريين الشجعان من رجال ونساء وأطفال ضحوا بكل شيء للنضال من أجل التحرير والإنسانية.
فارس الرفاعي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية