بسبب غزارة وأهميه ما أدلى به الشاهد الذي أطلق عليه اسم "07/19/Z- 30"، استمعت المحكمة في كوبلنز الألمانية إلى شهادته على جلستين مطولتين في يومين متتاليين. وقد نقلنا سابقا وقائع الجلسة الأولى المنعقدة بتاريخ 9 أيلول، وها نحن نحاول الإحاطة بالجلسة الثانية التي عقدت بتاريخ 10 أيلول، وأدلى خلالها الشاهد بمعلومات جديدة، وانتهت بجدل بين هيئة الدفاع عن المتهمين (أنور رسلان، إياد الغريب) من جهة، ومحامي الشاهد من جهة أخرى.
*في الكواليس
بعد انتهاء الجلسة الأولى، كنت (أنا كاتب التقرير) آخر من غادر القاعة.. بدأت البحث بين الحاضرين لأحصل منهم على تصريح أو تعليق أكمل به صورة المشهد، ففوجئت بالشاهد "Z-30"يقف على بعد بضعة أمتار من الباب الرئيس للمحكمة.
توجهت إلى الرجل لأتعرف إليه شخصيا، صافحني دون أن تعيرني عيناه المتغرغرتان بالدمع أي انتباه، بقيتا ساهمتين تنظران في الأفق بلا هدف.
بصوت مرتفع قليلا، على أمل قطع شروده ولفت انتباهه، شكرته على شهادته أمام المحكمة، فنظر "Z-30" إليّ محدقا في عيني، ثم قال: "الحمد لله هي شهادتي لله"، كان صوته يوحي بشخص أراد إراحة ضميره وقد حصل على ذلك.
رفع الرجل بيده اليمنى قناعه الطبي من أسفل الذقن قليلا إلى حدود فمه، ليدس السيجارة بيده الأخرى المرتعشة بين شفتيه، قبل أن يعود ويخفض يده بسرعة منزلا القناع، تاركا الدخان يخرج من تحت القناع، متلفتا حوله باستمرار، التفاتا يشي بالارتباك.
سألته إن كانت الترجمة بالنسبة له جيدة ومفهومة، لاسيما أنها استخدمت كماً غير قليل من الكلمات الفصحى، لمخاطبة رجل (أي الشاهد) توحي طريقة كلامه وإجاباته، بأنه لم يبق طويلا في المدرسة.
أجاب "Z-30": "ماشي الحال، أنا فهمت كلشي"، ثم انطلق دون مقدمات للحديث عن الجثث، وكأنه ما زال مائلا أمام المحكمة، ولم يخرج منها: "سألوني عن الأرقام، صدقا ما عديت، بس إذا قلت ملايين ما بكون بالغت. والله أكتر من مليون (جثة) ونص، والله"، ثم يتابع معيدا بعض التفاصيل التي رواها أمام المحكمة، ويده بين الحين والآخر ترفع القناع بشكل بسيط، حتى يتسنى له التدخين، ثم ما تلبث أن تعيد القناع لمكانه، مع ارتعاشة يحاذر الشاهد أن ألاحظها.
هنا يتدخل المحامي "أنور البني"، موجها كلامه إلي بصوت عال بعض الشيء: "لاتتقل (تثقل) على الرجل"، ورغم محاولتي تغيير دفة الحديث أكثر من مرة، فإنني لم أفلح، ما أوحى إلي أن الشاهد يقف أمامي نظريا، لكنه شارد في مكان آخر عمليا، وبدا وكأنه لم يكن يسمعني، مع إصراره على مواصلة نفس الحديث (موضوع شهادته)، ثم مشى خطوتين إلى الوراء وأسند جسده إلى الجدار.
*لن ألبسه بعد اليوم
اتجه محامي "Z-30" نحونا من بعيد، بخطى متسارعة.. من فضلك، بدون صور، بدون لقاء، من فضلك"، قاطعته مؤكدا له أني لا أصور إطلاقا.
توجهت إلى "Z-30" وسألته: هل أنت بخير؟، فأومأ إلى برأسه ويده أن الأمور على ما يرام، وهنا وقبل أن نفترق أعطيته رقم هاتفي، على أمل أن أتلقى منه اتصالا يروي عطش الأسئلة المتدافعة في خاطري وخاطر كثير من السوريين الذين سيقرؤون وقائع إفادته قريبا.
صباح اليوم التالي، وأثناء وقوفي على جهاز التفتيش الخاص بالمحكمة، وبينما يتم التحقق من الأجهزة التي أحلمها (الكاميرا ومعدات الصوت)، يصل الشاهد "Z-30" من خلفي، لم يستخدم اليوم المدخل المخصص للشهود.
يقف "Z-30" حاملا سلسلة غليظة من المعدن (بلاك) أشبه الجنزير، يطلب مني أن أساعده بوضعها في معصمه، بعد أن اضطر لخلعها من أجل التفتيش.. "صدقني بالعادة بعملوا لحالي بس هالمرة ماحسنت"، أساعده في إعادة السلسلة إلى معصمه، لكني أنبهه أنها قد تصبح علامة فارقة يسهل تمييزه من خلالها، فريد بعفوية: "لن ألبسه بعد اليوم، خلص".
*أنا كاتبهم
بدأت الجلسة الثانية بعرض بعض الملحقات، المتمثلة في "رسوم توضيحية" كانت موجودة في ملف التحقيق مع الشاهد.. أوراق رسم أو خط الشاهد عليها أمام الشرطة الألمانية، ليشرح لهم بعض التفاصيل.
ونظرا لأن التصوير محظور بجميع أشكاله، فقد عمدت "زمان الوصل" إلى إعادة رسم الأوراق المعروضة في قاعة المحكمة، عبر جهاز إسقاط ضوئي، محاولة أن تنقل كل تفاصيل تلك الأوراق، بما في ذلك محاكاة خط الشاهد، وملحوظات الشرطة على تلك الأوراق.
سألت القاضية الشاهد: ما هذه الورقة (الصفحة رقم واحد أثناء إسقاطها)؟
أجاب الشاهد: سألوني كيف كان شكل المقبرة، الرموز على الورقة هي كانت موجودة على السجلات تبع الدفن.
القاضية: هكذا إذن كان شكل القائمة التي كنت تستلمها؟
يرد: أنا كنت اكتبها، وهي بتشبه الورقة الي كنت اكتبها.
القاضية: إذن هكذا كانت؟
يرد "Z-30": هدول أنا كاتبهم.
القاضية: ما هذه الأرقام المدونة على الورقة؟
يجيب: الأرقام هدول عدد الجثث من الأفرع، والدائرة هي شكل مساحة الدفن.. أسماء الأفرع كانت تجي هيك رمز مع رقم.. هنن (ضباط المخابرات) كانوا ينقّلوني.
"أنور رسلان" ينظر إلى صورة الورقة المسقطة على جدار المحكمة، ويدون بكل تركيز، أما "إياد الغريب" فلا يعير أي اهتمام، حتى إنه لا ينظر إلى الصورة مطلقا.
يؤكد الشاهد أن رسمه لهذه الورقة، كان محاوله ليشرح للضباط أثناء التحقيق شكل الأوراق التي كان يكتبها، وأن هذه الورقة هي فقط مثال توضح كيف كان يسجل رموز الأفرع وبجانبها أعداد الجثث القادمة من كل فرع، مضيفا: "يعني كان يجي مثلا رقم 40 وحرف د، يعني أمن دولة قسم 40، وبعدا عدد القتلى، ولمين تابع هاد الفرع".
هذا حين تأتي جثث الضحايا مباشرة من الأفرع، أما حين ترد من المشافي العسكرية (تشرين وحرستا)، فقد كانت الجثث ترفق مع عدد مختلف من الوثائق في كل مرة، لأن الجثث الواردة من المشافي العسكرية، وحسب شرح الشاهد، جثث مجمعة من عده فروع أمنية، ولكل فرع وثيقة خاصة به، معقبا: "أحيانا يجي براد (شاحنة لنقل الجثث) معه 3 وثائق، وأحيانا 10 وثائق، يعني كل وثيقة من فرع، أنا رسمت الشكل بشكل تقريبي بالعربي، لتعرفوا من وين كنا ناخد (الجثث)، والشرطة كتبت الإنكليزي عليه".
*فرقة ماهر الأسد
بعد ذلك، عرضت هيئة المحكمة صورة الصفحة الثانية من "رسوم" الشاهد، وهنا باشر الأخير التعليق فورا: "الشرطة طلبت مني انو أرسم من وين كانت تجي الجثث، لهيك رسمت هي.... الفرقة الرابعة كانوا يدفنوا بمكان الفرقة، الي ضفتوا أنو الفرقة الرابعة كانت بالأخير تبعت كمان".
القاضية تستفسر ماذا كان يقصد بـ"الجنائية"، لأنه ذكر هذه المصطلح لدى الشرطة وقت التحقيق، فيما "أنور رسلان" يحدق بالشاهد بكل تركيز، و"إياد الغريب" يضع يديه على رأسه كمن أصابه صداع.
تنتقل المحكمة إلى صور للأقمار الصناعية، حيث تعرض القاضية بعض اللقطات من "خرائط جوجل"، لكن الشاهد يخفق في تحديد أماكن المقابر على الخرائط.
ينبري محامي الدفاع عن المتهمين ليسأل الشاهد: في أي اتجاه يقع مطار دمشق؟ ثم يسأله عن مواقع المقابر مره أخرى.
يعود الحديث إلى عمل الشاهد منذ البداية، وكيف أنه كان ينفذ بعض "الأعمال" بدون أي معرفة بالتفاصيل، ومع مرور الوقت بدأت مخابرات الأسد تثق به وبفريقه، وبدأت تعتمد عليه وعليهم في تأدية "المهمة".
خلال الجلسة الثانية، أكد الشاهد أن لكل من الفرقة الرابعة والمخابرات الجوية في المزة ومطار المزة مقابرهم الجماعية الخاصة، بحسب ما سمع من سائق "الباغر" وسائق "التركس"، الموكلين بحفر خنادق الدفن في "نجها" و"القطيفة"، حيث كان هذان السائقان أيضا يقومان بذات المهام في مقابر الفرقة الرابعة والجوية.
يسأل أحد القضاة عن وضع مشفى المزة العسكري (601)، فيجيب الشاهد إنه يشبه مشفى تشرين، ولكن مشفى المزة صغير ولا يستوعب برادات جثث كبيرة مثل مشفى تشرين، وعليه يتم نقل الجثث من مشفى المزة إلى تشرين، لترحيلها من هناك إلى إحدى المقبرتين في نجها أو القطيفة.
يسأل القاضي: هل كنت تدخل المشافي؟، فيرد "Z-30": "لا ما دخلت، لكن كنت شوف السيارات وقت تطلع من مشفى تشرين، كنت استنى الضابط الي كان يطالع الجثث مع الدورية المرافقة".
القاضي: تحدثت للشرطة عن مقبرة ثالثة، ما هو اسم المقبرة الثالثة؟
يجيب: كانت تابعة للفرقة الرابعة، تابعة لماهر الأسد، هنه كانوا يدفنوا بقلب الفرقة. وفرع المخابرات الجوية بالمزة, كانوا يدفنوا بنفس الفرع".
القاضي: هل كنت تعمل معهم أم إنك سمعت بذلك؟
يرد: "سائق الباغر وسائق التركس كانوا يقولو لي هاد الكلام، كانوا يقولوا كمان انو حفروا بمطار المزة منشان رمي الجثث".
*أسئلة تقابلها اعتراضات
يطلب ممثل النيابة العامة من الشاهد أن يلتفت إلى الخلف قليلا، حيث يجلس "أنور رسلان" و"إياد الغريب"، وأن ينظر إليهما ويتأكد إن كان يعرفهما أو رآهما من قبل، وهنا يهب "إياد الغريب" من سكونه الذي غلب عليه خلال الجلسة، ويخلع قناعه الطبي، ملوحا بيده للشاهد، أما "أنور رسلان" فلم يتحرك من مكانه وبقي ساكنا.
ينظر الشاهد إلى "رسلان" و"الغريب" ويخبر المحكمة أنه لا يعرفهما.
بعد فراغ الشاهد من كل ما في جعبته في هذه الجلسة، شرعت هيئه الدفاع عن المتهمين بتوجيه أسئلتها إلى "Z-30"، وكانت في معظمها أسئلة تدور حول شخصية الشاهد، الذي سبق للمحكمة أن أكدت الحق في إخفائها (أي الشخصية) حتى عن فريق الدفاع.
سأل محامي من هيئة الدفاع الشاهد: ماذا فعلت بعد أن تركت المدرسة؟، فاعترض محامي الشاهد على السؤال معتبرا أنه سؤال ليس له علاقة بالقضية، لكن محامي هيئه الدفاع ألح على معرفة الجواب.
هنا تدخلت هيئة القضاة، وأكدت ردها لسؤال محامي الدفاع عن المتهمين، الذي انتقل بدوره لسؤال آخر، مخاطبا الشاهد: "هل كنت سائق شاحنة؟"، وكما هي الحال اعترض محامي الشاهد، فكرر محامي المتهمين سؤاله، مؤكدا أنه لايريد جوابا مفضلا، يكفي نعم أو لا، فرد الشاهد: نعم.
يسأل محامي الدفاع عن المتهمين: هل أديت الخدمة العسكرية؟، فيتعرض محامي الشاهد من جديد ويقبل القضاة اعتراضه، فيحاول محامي المتهمين مع سؤال آخر: "هل كنت في الإدارة بدمشق بعد أن أنهيت الخدمة العسكرية؟".. سؤال يقابله الاعتراض من محامي الشاهد الذي يؤكد: "أنا المساعد القانوني للشاهد ومحاميه، موكلي كان يأخذ العمال إلى المقابر ويسجل القوائم في المكتب، وقد شرح ذلك بالتفصيل".
القاضية للشاهد: هل تؤكد ذلك؟
الشاهد: نعم، نعم.
محامي هيئه الدفاع مكررا نفس السؤال على الشاهد: هل كنت موظفا في الإدارة؟، محامي الشاهد يعيد الاعتراض.
محامي هيئة الدفاع للشاهد: أنت قلت إن العميد… (تم حجب الاسم من قبل زمان الوصل) أعطاك المهمة؟، وعند هذا السؤال كان من الغريب جدا أن يكشف محامي هيئة الدفاع عن اسم عميد عمل مع الشاهد، رغم تحذير محامي الشاهد مرارا من أي معلومة قد تؤدي للكشف عن هوية موكله.
ممثل النيابة العامة يرد على محامي هيئة الدفاع: "أنت تسأل عن تفاصيل، لا نعلم إلى ماذا تريد أن تصل من خلالها".
محامي هيئة الدفاع للشاهد: هل كنت أنت من يدون القوائم شخصيا؟
يرد: "نعم، أنا وضابط من الأمن".
محامي الدفاع: أين كنت تسجل هذه القوائم؟
يرد: "في المكتب".
محامي الدفاع للشاهد: كيف كنت تعرف ما هي الأشياء التي كنت تسجلها؟ كيف كنت تعرف أن حامل هذا الاسم أو ذاك شخص ميت؟
القاضية لمحامي هيئة الدفاع: أعتقد أن سؤالك ليس له علاقة بما ذكره الشاهد.
محامي الدفاع للقاضية: أنا أفوضك بطرح السؤال.
القاضية: لقد قال الشاهد إنه كان يستلم القوائم مع الشاحنات.
هنا يدخل محامو الدفاع في لحظات من التشاور فيما بينهم، ليعلنوا اكتفاءهم من طرح الأسئلة، ولتخبر القاضيه الشاهد "Z-30" أنه بات بإمكانه الانصراف.
تنتهي الجلسة الثانية حوالي الساعة 12:05 ظهرا، ويغادر الشاهد قاعة المحكمة مسرعا، وكأنه يسابق الوقت.
طارق خلو -زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية