نكاد نشعر بالخيبة عندما تطلق شخصية عامة تصريحات تتناقض مع الحس الإنساني الجمعي أو تبتعد عنه، وتزداد خيبتنا بشاعة عندما تكون هذه الشخصية قادمة من دوائر العاملين في الأدب والفن، والثقافة بالعموم، فهي وفق تصوراتنا المسبقة تتداخل مع دوائر هموم الناس وأوجاعهم وكذا أفراحهم. هذه الخيبة نحن من يتحمل وزرها، لأننا من أوجد صورة ذهنية خاصة لهذه الشريحة من البشر وافترض سلفا وبشكل شبه قطعي أنها تتمتع بحس إنساني عالي يميزها عن غيرها.
في أحد الحوارات مع الفنان العالمي عمر الشريف، وعندما بالغت بمدحه الصحافية التي تجري معه الحوار قال لها "أنا ممثل، مهنتي ممثل، شأنها شأن أي مهنة أخرى"، ووفق هذا الطرح، وهو طرح دقيق، فلا فرق بين من يمتهن الفن والأدب وبين عامل النظافة، والسياسي، والبقال، والتاجر والفلاح، والبائع، والمدرس، سوى بالصورة التي رسمت في أذهاننا عنها، وهي صورة "قيمية"، ليست بالضرورة أن تكون مطابقة للحقيقة، شأنها شأن السلعة التي تكتسب سمعة واسعة جراء الكم الكبير من الإعلانات التجارية عنها، ولكنها ليس بالضرورة أن تكون ذا جودة، أو على الأقل ليست أفضل من غيرها من السلع التي لم ينلها حظ من الإعلان.
لم نكتف، نحن عموم الناس، برسم هذه الصورة عن تلك الشريحة، بل أوجدنا بينها وبين غيرها من الفئات حدودا وفروقا تزداد وضوحا كلما تراجع مفهوم "المواطنة" سواء بمعناها القانوني الذي لا يميز فئة عن أخرى باستثناء الأمور التقنية، أو بالمفهوم الإنساني للمواطنة.
في الغرب، تقل هذه الفروق، وأحيانا تتلاشى، فالطبيب لا يملك قيمة مضافة عن صاحب أي عمل آخر، وعامل النظافة في شركة ما، تقدر قيمته من حيث هو عامل أولا، وليس من حيث هو "زبال" كما في مجتمعات أخرى، ومثله الفنان ولاعب كرة القدم وحتى السياسي في بعض الأحيان، وهنا لا أقصد التعميم الأفلاطوني، ولكن على الأقل هو كذلك من الناحية القانونية وإلى حد معقول جدا من الناحية المجتمعية.
ساهمت سنابك خيل الباحثين عن هوية خلال السنوات العشر الأخيرة بتحطيم الكثير من المفاهيم بغثها وسمينها وبدأت تنمو أخرى على أنقاضها، وقد يكون من بين ما تحطم، أو في طريقه إلى ذلك، الصور الذهنية لفئات وأشخاص ارتكب الناس "إثم" رسم صورة لهم تكاد تقترب من القداسة.
بعض هذه الصور تحطم في لحظات الحقيقة، لحظات اصطف فيها كثر من أصحاب "الصور" على الضفة المناهضة للحس الإنساني، مرة بالكلام، وأخرى بالصمت، فالصمت فعل صاخب ومؤذٍ عندما يصبح الكلام ضرورة، وثالثة بالفعل، أي فعل "تشبيحي".
المفكر الكويتي "عبد الله النفيسي"، اعترض مرة، خلال حوار، على إطلاق وصف "السيدة" على أم كلثوم، فالسيدة حرة، وأم كلثوم لم تكن حرة حسب رأيه، فهي غنت للملك ثم لمن انقلب عليه ولو أنها استمرت لواصلت الغناء للجميع. ربما كانت أم كلثوم متصالحة مع ذاتها فهي تمارس مهنة الغناء شأنها شأن كل من يسعى للكسب بعيدا عن أي اعتبارات، وبهذا تكون قد وضعت نفسها في إطار أصغر من ذاك الذي في ذهن الناس عنها، ولعل ما كانت تقوم به شكلا من أشكال النفاق ولا يستبعد أيضا أن يكون قناعة ورسالة.
في الكويت أيضا هناك من يطلق مفردة "السيدة" على الممثلة حياة الفهد التي طالبت برمي الوافدين إلى الكويت في الصحراء لأنهم يتسببون كما تقول بازدحام المستشفيات بفعل جائحة كورونا التي تضرب البشرية.. إذا كانت الأولى من عبيد السياسة والمال، كما يرى النفيسي، فلأي سيد تنتمي "العبدة" الثانية.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية