كان الزمن مختلفاً، لم تكن ثورة التقانة قد بلغت مبلغها كما اليوم، وكان التعتيم الإعلامي يسجل نجاحاً باهراً في إخفاء الحقائق، أو طمسها، أو جعلها سيرة تحتمل التكذيب مثلها مثل كل الأساطير...في طفولتنا لم نكن نعلم ما يحصل في الحي المجاور لحينا إلا بعد حين، أو إذا أعلنته إذاعة إسرائيل، حتى باتت هذه الإذاعة هي مصدر الأخبار الصادق الوحيد والتي يصدقها السوري.
في ذلك الوقت لم تذع تلك الإذاعة أخبار اجتياح حماة، وكل ما كنا نسمعه هو فقط عن عمليات التفجير التي يعزونها للإخوان المسلمين داخل العاصمة دمشق، مثل تفجير الأزبكية وكراجات العباسيين وسواها، وكوننا كنا صغاراً، كان الأهل يتحاشون الحديث أمامنا بهذه الأمور التي يعرفون حقيقتها ويتهامسون محذرين بعضهم من أجل الحرص على ضرورة الانتباه لعدم سماعنا لأحاديث الكبار كما كانوا يسمونها، وبالطبع ليس خوفاً على صحتنا النفسية لا سمح الله، ولكن خوفاً من ألسنتنا الطويلة نحن الأطفال المختصين بفضح أسرار أهلنا عند أول من يصادفنا ويسألنا عن حالهم لنبدأ بسرد كل الأحداث والأحاديث التي يجب ألا نبوح بها.
وبعد أن كبرنا وبدأنا نعرف ما جرى في حماة من مجازر، وجرائم وإبادة كان الوقت أصبح ذكرى ولم نكن نعرف من حماة سوى رحلاتنا المدرسية إلى نواعيرها والاعجاب بأحيائها الحديثة البناء، بعماراتها المنسقة وشوارعها المنارة، غير مدركين أن هذه العمائر بنيت على أشلاء الضحايا، لتخفي معالم الجريمة.
نُسيت جريمة حماة ونُسي مرتكبوها، وظل الحديث عنها يرعب الجميع، وظلت الإبادة حبيسة ذاكرة من عاصرها فلا صورة توثق الجريمة ولا فيديو يدين الجناة المجرمين.
طُحن السوريون في حماة، وابتلعوا مرارة ما عانوه متغاضين عن إغماض العالم عن مأساتهم مبررين ذلك بالتعتيم المخابراتي، والقبضة الحديدية للأسد الأب، وخوف الضحايا من فضح ما حصل.
اختلف الزمن، كسر السوريون حاجز الخوف، وغزت فيديوهات جرائم الأسد الابن وحلفائه مواقع التواصل الاجتماعي ووصلت إلى أهم القنوات الإخبارية في العالم، لكن السوري ظل مغدوراً دائما، خذلته القنوات، وخذله العالم، خذله أبناء عروبته وأبناء دينه وحتى إخوته بالإنسانية...
اليوم تباد محافظة إدلب، تُدك أحياؤها ومزارعها وأبنيتها بالقصف والبراميل ...ينزح أهلها لا يعلمون إلى أين، فقد ضاقت الدنيا على السوري، تباد المدينة، يموت الأطفال، تغتصب النساء، يُذبح المسنون، يهجر السكان من منازلهم، وكل شي موثق ومنشور، وعلى مرأى من العالم أجمع، ويبقى العالم صامتاً وكأننا ما زلنا نعيش قبل ثورة الاتصالات، فما الذي تغير؟
منذ ثمانية وثلاثين عاماً ظل العالم صامتاً عن ذبحنا ولم نلمهم، فعدم المعرفة يسقط الواجب، واليوم الكل يعلم، والكل يرى، والكل يراقب وبصمت.. ومازال السوري يموت سراً وعلانيةً، ما زال السوري مغدوراً وعن سبق الإصرار...ما أخشاه أن يبقى موتنا مباحاً ولا نريد إلا الخلاص فيرضى القتيل ولا يرضى القاتل.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية