القضية رقم (484) لن تكون الأولى، ونتمنَّى أن تكون الأخيرة.. هي مجرد أمنية تجول في الخاطر، وتستهوي مشاعرنا؛ لأنَّ الواقع -على ما يبدو- أقسى بكثير من أن يحقّق أمانينا، ولاسيما فيما يتعلق بحقوق المرأة.
فقد مللنا حقاً من همجية مازالت إلى اليوم تغتال زهراتنا تحت ضوء النهار، وبدم بارد، ضمن منظومة فظيعة اسمها جرائم الشرف، وما يرتبط بها من قوانين فضفاضة تتسع لكلّ الجرائم التي ترتكب تحت جناحها، وضمن نظام مكافآت سخية تمنحها المحاكم لكلّ القتلة، حيث تتفتق العقول بتكييف قانوني لكلّ الجرائم، فالجريمة التي يصعب تكيّفها تحت المادة 548 من قانون العقوبات، ستجد لها مكاناً حتماً تحت عباءة المادة 192 ضمن ما يسمى الدافع الشريف.
والقضية 484 هي القضية التي يحاكم بها قاتل المغدورة زهرة، أخوها الذي اقتطفها بسكين غادر وهي نائمة بكلّ وداعة في سرير زوجها الذي كان قد غادر المنزل يومها.
واليوم في 15/2/2009 سجَّل الفنانون موقفاً مشرفاً يستحقُّ التحية والتقدير؛ لأنهم أرادوا أن يعبّروا عن موقفهم الرافض للصفح المجاني الذي يقدّمه القضاء للقتلة ضمن هذه المنظومة، حيث حضرت هذه المجموعة جلسة المحاكمة الواقعة في محكمة جنايات الزبلطاني.. جلسة كانت مفاجئة لبعضهم حقاً، لأنَّ كمَّ الملفات الموضوعة أمام القضاة هو كم مرعب، ليست كلها جرائم شرف.
ومن الغريب حقا أنَّ زهرة ليست إلا اسماً يذكر ضمن الملف، وكأنَّ الملف لا يعنيها، فهي قتلت وحسب. ومع هذا، فعندما سأل القاضي محامية المدعي -وهو زوج زهرة الذي ادعى على القاتل بموقف شجاع ونادر ضمن هذه المنظومة- أجابت: أنا حاضرة عن زهرة.. أصبتُ حينها بالقشعريرة. تداركت المحامية طبعاً في نفس اللحظة، وقالت مصححة: أنا حاضرة عن فلان. ربما سبقتها مشاعرها وأحاسيسها حين اختلط الأمر عليها، وقالت أنا حاضرة عن زهرة، ولكن الواقع فعلا أننا كلنا كنا حاضرين عن زهرة، الفتاة القتيلة، التي لطَّخت دماءها ليس فقط أيدي أخيها بل أيدي كلّ من يسمع ويرى ولا يحرك ساكناً أمام أحكام الإعدام المجانية التي يطلقها المجتمع بحقّ بناته بحجة شرفٍ ضاق مفهومه ليختصر فقط في معنى ضيّق يخجل الشرف ذاته منه لو كان كائناً حياً.
أما محامية المدعى عليه (أي القاتل) فلم تحضر. لا أعلم إن كانت خطوة مقررة مسبقاً، أم هي محض صدفة.. لكن هذا ما حصل، وهذا ما دفع المحكمة إلى التأجيل إلى موعد آخر.
أما مجموعة الفنانين التي حضرت الجلسة فهم: سليم صبري، ويارا صبري، وسلافة معمار، وليلى جبر، وماهر صليبي، وقيس الشيخ نجيب، والكاتبة كوليت بهنا، وريما فليحان.
محرم في كلِّ الشرائع
قيس الشيخ نجيب قال: «إنَّ القتل فعلٌ شائن وغير مبرر، وهو محرم في كل الشرائع السماوية حتى في هذه الحالات، وإنَّ المغدورة زهرة تزوَّجت، وعلى الرغم من ذلك فقد قتلت، وهو أمرٌ لا يمكن تبريره وهو مرفوض»، ويعتبر أنَّ «الفنان يجب أن يحمل رسالة اجتماعية ويقدّم دوره في المجتمع؛ لأنه شخصية محبوبة عند الناس، ولأنه مؤثر لدى الكثيرين. ومن خلال هذا أردت من خلال الحضور أن أعبّر عن رفضي لهذه الجرائم المرتكبة بذريعة الشرف، وللقتل عموماً».
الفنان صاحب رسالة
أما يارا صبري، فقالت: «علمت بقصة الفتاة زهرة التي تشبه بشكل أو بآخر قصصاً كثيرة وبأسماء مختلفة وظروف مختلفة، ولكن نتيجتها واحدة؛ ضحية لا ذنب لها سوى أنها خلقت في مجتمع لا يعرف من كلمة الشرف إلا حروفها».
وتقول: «هذه الفتاة تستحقُّ أن تنصف، ولو بعد موتها، بأن يعاقب الجاني كأيّ مجرم يستحقُّ العقاب.. كما أنَّ اللافت والمشجع في هذه القضية بالذات أنَّ هناك ادعاء من قبل زوج الضحية، وهو أمر يجب أن يؤثر في القضاء وحكمه في هذه الدعوى». وتضيف يارا صبري: «أعتقد أنَّ الفنان صاحب رسالة ضمن مجتمعاتنا التي يؤثر بها رأي الفنان، وهو مثل أعلى لكثير من الفئات الاجتماعية، ومن واجبه، من خلال عمله، أن يطرح المشكلات المهمة التي تواجه المجتمع، ولا يجب أن نكتفي فقط بالتعبير اللا مباشر عن آرائنا، بل أرى أننا -نحن الفنانين- معنيون بتغيير الكثير من العادات والتقاليد البالية التي تكرّس التخلف. من هنا تأتي أهمية المشاركة في العمل الاجتماعي. ومن هنا تأتي ضرورة العمل من أجل تغيير القوانين اللامنطقية التي تطبق بشكل عشوائي ولاسيما فيما يتعلق بالمادتين 548 و192، ضمن ما يطلق عليه جرائم الشرف. هذا موضوع مهم ويجب متابعته من كلّ الفئات المثقفة المعنية بالمجتمع، وضمنها الفنانون والإعلاميون».
وتضيف صبري: «كلّ الجهود يجب أن تتضافر مع العاملين في المجتمع والجمعيات الأهلية للوصول إلى هذا الهدف».
تغيير القوانين
في حين قالت ليلى جبر إنها حضرت هذه الجلسة لتعبّر عن رفضها لجرائم الشرف وإعفاء القتلة من العقوبة في هذه الجرائم.. وترى أنه «يجب تغيير كلّ القوانين المجحفة بحقّ المرأة.. ويجب أن نعمل جميعاً من أجل هذا».
تبرير الجريمة لأيّ سبب
سلافة معمار قالت إنها حضرت لأنها مهتمة بهذا الموضوع، وإنها ضدّ تبرير الجريمة لأيّ سبب من الأسباب، لأنَّ الدم حينها سيصبح رخيصاً، بالإضافة إلى أنه ليس من حقّ أحد أن يقرّر مصير أحد لتقتل أيّ فتاة بحجة الشرف.
جرائم غير مبرّرة
أما ماهر صليبي، فقد اعتبر أنَّ «هذه الجرائم هي جرائم بشعة وغير مبررة مهما كان سببها، وأنَّ العدالة يجب أن تأخذ مجراها في الاقتصاص من القاتل.. وأنَّ الفنان مسؤول ككل الفئات المثقفة في المجتمع في أن يعبر ويعمل على تغيير كل العادات والتقاليد البالية والمتخلفة».
حالة غير إنسانية
سليم صبري يرى أنَّ «هذه القوانين هي حالة غير إنسانية وهي تناقض مبدأ العدالة؛ فالقتل هو القتل مهما كان السبب، والعدالة توازي العدالة ولا يجب أن تكون قوانيننا مستندة إلى تقاليد بالية ومتخلفة، بل يجب أن تواكب الحضارة والتقدم والمفاهيم الإنسانية».
مشاكل المجتمع
الكاتبة كوليت بهنا كان لها رأي آخر؛ حيث قالت إنها تأثرت كثيراً عندما رأت هؤلاء الواقفين خلف القضبان، لأنهم جميعاً شبان، وهم أناس نراهم عادة بيننا، ولكن ما دفعهم إلى ارتكاب هذه الجرائم هو المجتمع بمشاكله، كالبطالة والفقر والتخلف والكبت الاجتماعي.. ومع هذا، فإنَّ هذه الجرائم غير مبرّرة.. كما عبَّرت عن أهمية دور الفنان في التوعية المجتمعية، من خلال تأثيره الواسع في الناس، ومن خلال -ربما- جولات على الريف والمناطق التي تحتاج إلى هذا النوع من التواصل.
أخيراً
زهرة، وهدى، وسناء، والكثيرات غيرهن، هنَّ ضحايا المجتمع «مرة»، والقانون والمجتمع متضامنان ألف مرة.. هنَّ فتيات عشن بين أسرهن كبنات أو أخوات أو زوجات في أحد الأيام، بينما تقتلهن أسرهن تلك في اليوم التالي، وضمن مجتمع يدعي ويتفاخر بأنه مازال عامراً بالتكافل الاجتماعي وصلة الرحم.. مقولةٌ تثبتُ هذه الجرائم أنها مجرد ادعاءات نتفاخر بها، مثلها مثل الكثير من الأكاذيب التي نصدقها في مجتمعاتنا الشرقية!..
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية