لا يمكن تقزيم ثورة السوريين بأنها قامت ضد نظام الأسد والحكم الشمولي البعثي والطائفي، وليست حصرا للمطالبة بإنهاء تسلط الأمن والجيش على الدولة، وقليل عليها أنها قامت لتحقيق العدالة واستعادة الكرامة والحرية المفقودة منذ هيمنة البعث وأزلامه على مفاصل الدولة والقيادة، رغم سمو هذه الأهداف.
كل ذلك صحيح لكنه يبقى جزءا من أهداف هذه الثورة الأكثر نبلا في التاريخ، ثار السوريون لاستعادة ذاتهم، بل روحهم المفقودة، والخروج من رتل القطيع الذي ساقهم فيه نظام لا يهتم إلا لتوظيفهم خدمة لاستمراره وبقائه.
دون تصريح أو دعاية، وربما لا شعوريا، نفض السوريون الغبار عن سوريتهم العريقة، نكشوا من أعماقهم عظمة النشأة والتاريخ، يريدون إزاحة كل العوالق التي حطت عليها من حثالات البشر الطامعين بالمجد الشخصي على حساب الأمة التي لا تموت.
السوري ماجد، آرامي ومسيحي ومسلم، تعلو سوريته على ما عداها من تصنيفات وانتماءات، ولعلّ هذا بالتحديد ما رفع عدد أعدائه وزاد في نقمة العالم على رفعته وأصالته.
في 15 أو 18 آذار من عام 2011 هتف السوري "أنا سوري" أعود إلى هويتي وأرضي وذاتي، خسىء وخاب كل من حاول ولا يزال يحاول أن ينزع جذوري التي ستنبت اليوم أشجارا تفيض بثمار عذبة طال كمونها، لا يهمه ما خسر ويخسر، لأن ما سيجنيه أكبر وأعظم، يعوضه ما فقد، ويعيده سيّدا لذاته.
من علّم العالم أبجدية التغنّي بالسلام والمعرفة ناهض اليوم لا ريب، كان ينتظر الشرارة، وأوقدها البوعزيزي، فعاد لدوره معلّما ومدرسة بذاته يقدّم علوما في الحرية والكرامة، يتلقفها بلهفة عشاق النور حيث وجدوا، في الجزائر وفي السودان، يخشى الطغاة تمددها وازدياد مريديها، فاتحدوا متجاوزين كل خلافاتهم وتنازعهم ضدها، وهم موقنون بأنها ستفضح إجرامهم وعبوديتهم.
من تحت كل حجرة سوداء في حوران، ومن بين تدافع انسكاب الينابيع متنافسة إلى دمشق والغوطة، وتحت أفياء أشجار العاصي، وبعدد حبات الزيتون الإدلبي، ومن دروس التاريخ في حلب، وبإطلالته على سهول الفرات الخضراء، ومن حيث كتب للتاريخ أول أغنية على شط البحر، قام السوري ولن يقعد حتى يغنّي للسلام والعدل من جديد.
العابرون إلى زوال، طحالب اجترّت همجيتها وستختنق بها، وزناة ظنوا أنهم بالرصاص والتطيّيف يطوّعون الرؤوس الحرّة، لكن هيهات هيهات، الفينيق يحلق في السماء مجددا وخالدا، انظروا إليه، ملايين الطعنات لم تمنعه من الطيران، إنه اليوم يحوم في ذوات السوريين، ينتشون به ويسعدهم، يحلقون به ومعه لاستئصال الصغار واللواعق من سورية الأم.
ليس سوريّا، ولا يمكن أن يغدو، إلا من نهل من عاصيها وفراتها وبرداها، واغتسل بيمّها الصافي، بكى مع أحزانها، ورقص مع إشراقاتها، ستلفظه الأرض، ويقذفه الأحرار مكانا يليق بقذارته، بوتين وروحاني وأذنابهما، وضيعو الغرب المتكسّب من الدماء، سيتمنّون أنهم قدّسوا هذه الأرض وطأطأوا الرؤوس أمام تلك الجباه العالية، لم يألفوا عبر ما مرّ بهم وحتى في الكتب الغابرة من يداني السوريين كرامة، وكلما ازدادت معرفتهم بذلك ازداد حقدهم عليه، حقد مرتدّ عليهم ولا شك، سيقتلهم ويجعلهم يلوون الذيل خائبين إلى حيث أتوا.
إنه السوري ينهض اليوم، وكل يوم، لم تثنه ثماني سنوات من الموت عما قام لأجله، غير بعيد عن هذا التاريخ سيكون السوري سيّد نفسه يتربع عرش السلام والحرية، طوبى له، وليهنأ شهداؤه بأنهم كانوا فدوى للغالي الذي يلوح في الأفق القريب.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية