أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

عندما سقطت بغداد كنت هناك، مشاهدات حية على جريمة احتلال العراق(6-7)


عندما كنت اسلك شارع حيفا كانت تعتريني الكثير من المشاعر المتناقضة،

لم يكن من السهل التمييز بين الشعور بالقلق او الرهبة وحتى الخوف احيانا وبين الشعور بالزهو لمناظر الشبان او "المجاهدين" كما يفضل العراقيين مناداتهم، وهم منتشرون في جنبات الشارع في حالة من الاستنفار والاستعداد عالية لمواجهة الغزاة وعصاباتهم، وانا شخصيا اعتبر ان الخوف او القلق شعور انساني مبرر وليس من العيب الشعور به، هذا القلق او الخوف ربما، الناجم عن ان الواحد منا قد يتعرض الى رصاصة طائشة من هنا او عبوة ناسفة تنفجر في اللحظة الخطأ وفي المكان الخطأ واقصد هنا اذا ما انفجرت لحظة مروري في ذالك المكان.

لقد كانت رؤية الجثث وهي ملقاة في الشوارع البغدادية تزداد مع تقدم الوقت، ليس من السهل ان ترى الانسان وهو مجرد جثة ملقاة على قارعة الطريق، خاصة اذا ما رايت الكلاب الضالة تحوم حول تلك الجثث، حيث بالامكان عندئذ ان تدرك ان هذه الجثث سوف تنهش من قبل هذه الكلاب بعد حين.

في شارع حيفا ايضا كنت اسير بالقرب من ساحة الطلائع وقد صعدت على جسر مدينة الطب، جسر مدينة الطب هذا يصل ما بين باب المعظم وشارع حيفا وفي نهايته باتجاه باب المعظم توجد وزراة الدفاع التي تم نهبها من قبل الرعاع ولم يتم اعادة استعمالها من قبل الجيش العراقي الجديد الا بعد حوالي عامين من الاحتلال، وفي الجهة المقابلة للوزارة توجد مدينة صدام الطبية وهي صرح طبي ضخم تم بناؤه في عهد صدام حسين.

لاحظت خلال سيري على الجسر ان هنالك جثة ملقاة على الجهة الاخرى من الشارع- الجسر- وكانت السيارات لا تتوقف بل تستمر بالسير، الجثة كانت ممددة تقريبا في وسط الشارع، ولا تبعد عمليا عن مدينة الطب الا عشرات الامتار، الا ان احدا لم يجرؤ على الوقوف لابعادها او ازاحتها على جانب الطريق، وبعد ان مكثت اكثر من ساعتين في المكان الذي كنت اقصده عدت من نفس المكان وبرفقتي احد الاصدقاء، لقد فوجئت ان الجثة لا تزال في المكان، وعندما رغبت بالتوقف لازاحتها قال لي ان علي ان اواصل السير لانني اذا توقفت فان الجنود المتمترسين على اسطح الوزارة لن يترددوا في اطلاق النار علي، وهكذا اكملت طريقي وانا اشعر بقهر شديد.
كنت مضطرا لان اسلك شارع حيفا بشكل شبه يومي لقضاء بعض الاعمال، وقد كان الشارع لا يخلو من حدث، فبينما كنت اسير فيه واذا بمجموعة من الشبان- المجاهدين- يستوقفونني ولكن بشكل مفاجئ، وعندما تحدثوا الي واكتشفوا انني عربي حيث تحدثت اليهم بلهجة عربية وليس عراقية، طلبوا مني النزول من السيارة، وعندما استفسرت عن السبب قالوا لي ان علي معاينة جثة كانت ملقاة على جانب الشارع قيل انها لشخص عربي.

كان الوقت عصرا عندما وقع ذلك، لقد كشفوا لي عن وجه القتيل، كان يبدو انه قتل منذ فترة قصيرة، شاب في العشرينات من العمر قمحي اللون ذو شارب رفيع وملابس عادية لا تشير الى ما هو غير عادي. قلت لهم انني لا اعرفه، شكروني وسمحوا لي بالمغادرة، ما اثارني حول هذه الجثة انني وفي اليوم التالي وبينما كنت امر من نفس المكان وبعد اربع وعشرين ساعة لا تزال الجثة في عين المكان، برغم ان مدينة الطب لا تبعد اكثر من مئات قليلة من الامتار.

هذا الواقع الذي يعيشه اهالي شارع حيفا هو في الحقيقة نموذج لما هي عليه بقية المناطق في بغداد برغم ان هذا الشارع قد تميز نسبيا عن بقية المناطق، والحديث عن احداث مشابهة لا يتوقف ولا ينتهي، ففي الاعظمية تدور احداث اكثر حدة واكثر دموية، وفي العامرية والغزالية وغيرهما تتشابه القصص وتتكرر السيناريوهات لاحداث اكثر غرابة.

تكتم على الخسائر

كان من ضمن ما يلفت انتباهي وغيري من اهل بغداد من عرب وعراقيين هذا التكتم الاعلامي الشديد على العمليات اليومية التي تجري في بغداد، ان بامكان اي مقيم في بغداد وبالضرورة في بقية ارجاء العراق ان يسمع اصوات الانفجارات التي تقع بين الفينة والفينة في انحاء المدن المختلفة كما في العاصمة العراقية، الا ان ما يتم الاعلان عنه هو تلك الانفجارات التي تستطيع وسائل الاعلام الوصول اليها او سماعها ربما، فلقد كنا نسمع العديد من الانفجارات وخاصة تلك التي تقع اثناء ليل بغداد الحزين والمليء بالقصص المرعبة، الا ان هذه الانفجارات لا يتم الحديث عنها او ذكرها في وسائل الاعلام المختلفة.

لقد صرت احاول ان اوثق بطريقتي الخاصة عدد الانفجارات التي نسمعها بشكل شبه ليلي، كما احاول توثيق ما اسمعه عن احداث او انفجارات او عمليات اغتيال وقتل، هذه الاحاديث التي يتناقلها الناس او الاصدقاء او الاقارب والجيران، وعندما اقول توثيق فانني لا اعني الطريقة التقليدية بالتوثيق، بل من خلال مقارنة عدد ما اسمع من انفجارات او عمليات او ما ينقل الي من الاصدقاء والمعارف الثقات وتلك التي يتم الحديث عنها في وسائل الاعلام المختلفة، وقد كنت الاحظ الفرق الشاسع فيما هو واقع على الارض وما يتم الاعلان عنه، ولا اعتقد ان ذلك الفرق بين هذا وذاك كان بمحض الصدفة او مجرد خطأ غير مقصود، لقد كان ما يحدث من تعتيم سياسة واضحة وممنهجة، ولا يمكن اعتبارها الا انها سياسة يقصد من خلالها اخفاء الواقع الحقيقي لما هو جار على الارض.

مع استمرار الوجود الاميريكي في العراق تزداد وتيرة المقاومة وبالتالي تزداد الخسائر الي يتم الحاقها بقوات الاحتلال، واستطيع القول انه واهم من يعتقد ان بامكان القوات الاميريكية هزيمة المقاومة العراقية، او ان تستطيع حكومة الدمى في بغداد ان تهزم المقاومة، لان هذه المقاومة تنبع من الام وجراحات العراقيين الذين لم يقبلوا ابدا بوجود هذه القوات، ولان العراقي بطبعه وفطرته ترعرع على الكبرياء والنخوة والشهامة، ان القوات الاميريكية لا تستطيع دخول شارع حيفا على سبيل المثال الا في المدرعات والدبابات والسيارات عالية التصفيح، ولم يحدث ان رايت اي من سيارات الهمر او الهمفي في شارع حيفا، وان حصل فلا بد ان تكون مصحوبة بعشرات المدرعات والدبابات، اي باختصار وببساطة اعادة احتلال. نعم لقد كان يتم اعادة احتلال هذا الشارع بشكل اسبوعي تقريبا، والمقصود هنا ارسال عشرات الدبابات والمدرعات ومئات الجنود اليه بينما تحلق الطائرات المروحية وغير المروحية في اجواء المنطقة.

اما اذا تم الحديث عن قوات للمشاة في هذا الشارع فلا بد ان تكون اعدادهم بالمئات، واستطيع هنا ان اؤكد انني عندما كنت اشاهد هؤلاء الجنود فانني في كل مرة كنت اراهم بالمئات برغم انهم قد يتجولون في مناطق اخرى من بغداد على شكل مجموعات قليلة، اما حكومة الدمى القابعة خلف اسوار ما يسمى بالمنطقة الخضراء، فان من الصعب ان لم يكن من المستحيل رؤية اي من دماها خارج تلك المنطقة، واذا ما حصلت بعض الاستثناءات فان ذلك يتم تحت حراسة مشددة لا يمكن وصفها.

اسوار وميليشيات تبحث عن انتصارات فارغة

ان سيطرة القوات الاميريكية على العراق واحتلاله ومحاولات الترويج الاعلامي التي قامت بها ماكينة الاعلام الغربية الجبارة بقصد تشويه صورة الانسان العراقي، وانه يرحب بهذا الاحتلال، نجحت الى حد كبير في ذلك، وقد استطاع هذا الاعلام ان يرسم صورة قاتمة في نفوس وعقول الكثير من الناس ليس البسطاء منهم وحسب لا بل والمثقفين كذلك، وما يدفع على الحيرة والدهشة ان هؤلاء الناس وخاصة المثقفين منهم وقعوا في فخ هذه الدعاية واصبح الكل اسير نفس النغمة التي يتم ترديدها في الاعلام الغربي كما والاعلام المشبوه، ولم يحاول هؤلاء ان يتساءلوا عن اذا ما كان الشعب العراقي يتسم بذلك وانه اذا كان يرحب فعلا بالاحتلال اذن لماذا تتحول بغداد الى قلعة حصينة؟ فاينما تتلفت تجد الموانع الاسمنتية المسلحة وبارتفاعات تصل في كثير من الاحيان ان لم يكن في اغلبها الى ثمانية او ستة امتار.

لقد اراد هؤلاء الافاقين ان يصوروا ان العراقيين لا علاقة لهم بالمقاومة، كما رغبوا ان ينزعوا عن شعب العراق العربي الأبي صفة الوطنية والانتماء، كما ارادوا ان يَسِموه بِسِمَة التخاذل وغير المقاوم وهذا ما لا يمكن قبوله. ليس ذلك فحسب، لا بل وارادوا ان يقولوا وما زالوا يزدادون اصراراً على ان ما يحدث في ارض الرافدين انما هو بفعل فاعل، وهم يؤكدون على ان هذا الفاعل ليس عراقيا، وان من يفعل ذلك هم اولئك الذين اتوا من خلف الحدود، وعندما يتحدث هؤلاء عن العنف والارهاب والقتل فانما يقصدون المقاومة، في محاولة منهم للقول ان الانسان العراقي قد قبل بمصيره وبقدره وانه يرحب بهذا الاحتلال والامتهان والاستباحة للارض العراقية كما الكرامة والسيادة الوطنية وهو لا يرغب في مقاومة هذا لاحتلال.

هذه المحاولات البائسة لتصوير العراقي على انه لا وطني وانه لا مقاوم، تدحضها العمليات الجريئة والجسورة كما المستمرة واللامنتهية التي يتم تنفيذها بشكل يومي، وعندما نتحدث هنا فانما نتحدث عن العمليات التي تستهدف القوات الغازية وعملاء الاحتلال، لان لا احد يمكن ان يقبل بكل هذا القتل غير المبرر للابرياء في الشوارع والاسواق، وان المحاولات اليائسة لتصوير ما يحدث بانه ياتي من وراء الحدود ثبت فشلها وعقمها، وذلك من خلال الارقام والاحصائيات التي يوردها هؤلاء الافاقين انفسهم، فقد قال احد المتحدثين الرسميين باسم حكومة الدمى انه من بين ما يقارب 500 معتقل تم اعتقالهم في احدى الحملات في بغداد تم اعتقال 8 من جنسيات عربية.

ان الحديث عن الجنسيات العربية هو في واقع الامر حديث فيه الكثير من التضليل والخداع، فهنالك عشرات الالاف من العرب المقيمين في العراق، ومن بين هؤلاء هناك الالاف ممن يقيمون في بغداد، وقد حصل في اكثر من واقعة ان من يتم اعتقاله ليس له علاقة لا بالارهاب ولا بالمقاومة، انهم اناس بسطاء يقيمون في العراق منذ ما يزيد على عقود ثلاثة، ومحاولات الزج بهم وانهم متورطون في ما يسميه الاحتلال ارهابا ثبت فشلها وعقمها، لان اغلبهم يتم الافراج عنهم بعد فترة قليلة اذا ما وقع هؤلاء بيد قوات الاحتلال، وكثير ممن يتم اعتقالهم على ايدي القوات الحكومية تتم تصفيتهم ورميهم على قارعة الطريق.

القضية الاخرى الهامة التي استفاد منها هؤلاء في بدايات الاحتلال واستثمروها بشكل جيد، هي محاولة الناس بشكل عام النأي بانفسهم عن النظام السابق بكل ما فيه سواء اجهزته الامنية او الحزبية، بحيث صار التنصل من كل ما يمت للنظام والحقبة السابقة هي السمة الغالبة، وصارت اي محاولة للدعوة للمقاومة تفسر على انها محاولة لدعم النظام السابق واستعادته الى السلطة، وهكذا استطاع هؤلاء ان ينشروا ثقافة تتسم بالتخويف والترهيب وهذا ما أخّر بشكل او بآخر انطلاقة اكثر قوة للمقاومة العراقية، اضف الى ذلك تخاذل المرجعيات الدينية وخاصة المرجعيات الدينية الشيعية المنحدرة من اصول فارسية او غير عربية عندما لم تدع الى قتال الغزاة.

لقد حول هؤلاء الغزاة المدينة الى قلعة حصينة، بحيث صارت الشوارع التي يمنع على الساكن في بغداد ان يسلكها اكثر بكثير من تلك التي يسمح له في استعمالها، وصار كل قوم وحزب من هؤلاء الذين قدموا من الخارج يقيم ما يشبه معزولته، مغتصبته او مستعمرته او ربما يمكن تسميتها "الغيتو" الخاص به، حيث يقيم مع المجموعات المخلصة له فيها. ويقوم هؤلاء بوضع الحواجز الاسمنتية حول كل زاوية وشارع قد يؤدي اليهم، ويُبقون على مدخل او مدخلين تكون محروسة بشكل يصعب اختراقه، هذه المداخل عليها عشرات من الحراس الذين لا يمكن ان يترددوا في القتل في اي لحظة من لحظات الشك.

هذه "المغتصبات او الغيتوات" هي في حقيقة الامر عبارة عن قصور وفلل وممتلكات كبار القادة في النظام السابق، وقد اتى هؤلاء التابعين للاجنبي وسيطروا عليها بدون حسيب او رقيب، واقاموا حولها ما اقاموه من تحصينات دون اي رادع حيث لا قانون في البلد، وقد استفاد هؤلاء من حالة الفلتان وغياب سيادة الدولة، ليمارسوا كل الموبقات وكل الممنوعات، وهذا ليس بغريب على هؤلاء اذا ما وجدنا ان سيدهم الاميريكي والذي اتى بهم الى هذه البلاد كان قد سمح لنفسه بالسيطرة على منطقة واسعة من بغداد واطلق عليها اسم المنطقة الخضراء وهي في الحقيقة منطقة تمثل السيادة او جزء من السيادة العراقية، حيث تضم المجمع الرئاسي او احد المجمعات الرئاسية للنظام السابق واحتمى خلفها بجدران اسمنتية من كل الجهات حتى تلك التي تشرف على النهر برغم ان النهر يعتبر حاجزا طبيعيا.

ليس هذا فقط، بل وزيادة في الحرص او في الحقيقة الخوف والهلع وللتأكد من مزيد من الحماية، فقد تم منع العراقيين اهل البلاد من سلوك الكثير من الطرق، وهذا ما جعل من بغداد بعد الاحتلال اكثر العواصم ازدحاما ربما في العالم، ولم يكتف الاحتلال بذلك، فقد تمت احاطة كل الجسور وخاصة تلك الجسور الواقعة على الطرق السريعة بشبك من الاسلاك خوفا من عمليات المقاومة الباسلة التي أرّقت ولا زالت ليل المحتل ومن تحالف معه من العراقيين وغير العراقيين.

لقد تم حرمان العراقيين من الكثير من المناطق الجميلة التي كانوا يتمتعون بها على ضفاف النهر في بغداد، كما ضيقوا عليهم الخناق بحيث صارت قيادة السيارة في بغداد بعد ان كانت متعة للراغبين، صارت تشكل ضغطا نفسيا كبيرا على كل من يجد نفسه مضطرا للسفر بسيارته في شوارع بغداد، والحقيقة انه اذا كان الحديث في العهد السابق يدور عن مضايقات للناس اذا ما حصل لهم عطل او اضطروا للوقوف في بعض الشوارع لخلل ما، فان الامور الان هي اسوا بكثير مما كانت عليه سابقا.
26-3-2009

رشيد شاهين
(113)    هل أعجبتك المقالة (107)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي